الخطاة المدانون

الفصل السادس


بيني 

“نحن أصدقاء، أليس كذلك؟” 

أبعدت كعكة الشوكولاتة الساخنة عن متناول شوكتي وأمسكت بطني. إنها الطبق الأخير من عشاء مكون من ثماني وجبات، وإذا تناولت لقمة أخرى، فإن سحاب فستاني سيتوقف عن المحاولة.

 

“بالتأكيد.” قالها مات بنبرة باهتة توحي بأنه لم يسمع كلمة مما قلته. فهو مشغول جدًا بالتحديق في معجبته، والتي عرفت الآن أن اسمها آنا. تجلس على بعد ثلاث طاولات مع مجموعة من الأصدقاء، ولم يلمسوا أي طبق.

 

“حسنًا، ما رأيك بهذا. عندما تذهب إلى الحمام، اذهبي أنت أيضًا. ثم تظاهري بأنك تتحدثين على الهاتف وتحدثي عن حجم قضيبي أو شيء من هذا القبيل.”

 

أمهلته بضع ثوانٍ ليرسم ابتسامة أو يضحك، أي شيء يدل على أنه يمزح. لكنه لم يفعل.

“هل تعتقد أن هذا سيجعلك تحصل على الفتاة؟” 

نظرته تنحرف قليلاً. “الفتيات يحببن القضبان الكبيرة، أليس كذلك؟” 

 

“يا إلهي، مات.” أعدت سحب الكعكة نحوي مرة أخرى. لقمة واحدة فقط. “لماذا لا تذهب وتتحدث معها مباشرة؟” 

 

“هل ضربت رأسك؟ ستظن أنني غريب الأطوار.” 

 

أختار لقمة أخرى من الشوكولاتة اللزجة على قول الحقيقة الواضحة. طعم الشوكولاتة أفضل من الحقيقة. في بعض الأحيان، طعم سم الفئران أفضل من الحقيقة.

 

وصل الظلام بين طبق الأسقلوب وطبق لحم الضأن: الآن تلقي مشاعل التّيكي ومصابيح التدفئة الحمراء ودفء قصة حب ضوءًا غامضًا على المكان. إيقاع الفرقة الصغيرة المنخفض والمريح يتسارع ويدخل الساكسفون إلى المشهد. بينما تتحرك الكعوب اللامعة إلى ساحة الرقص وتتبعها الأحذية الجلدية المترددة، تشتعل الليلة بأجواء ممتعة.

 

يملأ أحد الخدم كأس الشمبانيا الخاص بي. أستدير لأشكره، لكن عينيّ تنجذب إلى شكل داكن خلف كتفه. يقف رافاييل فيسكونتي مستندًا إلى البار، وامرأة أخرى تحوم حوله كذبابة على القاذورات. لقد كنَّ يأتين ويذهبن طوال الأمسية – فساتين مختلفة، تسريحات شعر مختلفة، لكن بنفس السلوك المزعج.

مثل كل النساء قبلهن، حركاتها كبيرة وضحكتها عالية. في المقابل، رافاييل ثابت وأنيق. يميل رأسه للاستماع إلى حديثها المطول؛ ويمرر إبهامه على ابتسامة مهذبة.

 

رافابيل فيسكونتي هو الرجل المثالي.

إنه أيضًا الكاذب المثالي

 

كلمة “كاذب” تطن على طرف لساني مثل الحلوى الحامضة. سمِّها حدسًا، أو سمِّها عقلًا سليمًا؛ تعرف أمعائي أن هذا التصرف اللطيف ليس سوى خداع ووهم.

وكأنه يستطيع فجأة أن يشعر بالسموم في أفكاري، يرفع رافاييل نظره من الأرض ويلتقي بعينيّ. يلمع بنظرة ساخرة داكنة، والطريقة التي ينطق بها “بينيلوبي” بتمديد جميع حروفها الأربعة بلهجة مخملية، تهمس مع الريح

 

ينبض قلبي بسرعة، فأدور في كرسيي محاولة الحفاظ على ماء وجهي. عليَّ حقًا أن أتوقف عن النظر إليه، لأنه سيبدأ في الظن أنني أشعر بالغيرة، أو شيء من هذا القبيل. وأنا بالتأكيد لست غيورة.

 

ركزت على زوجين يرقصان الوالتز السكران على ساحة الرقص

“أنت” – ركلتُ مات تحت الطاولة لجذب انتباهه – “قل لي ما تعرفه عن رافاييل فيسكونتي. حقير، أليس كذلك؟” 

عبس، ثم نظر خلفي. أعرف أنه يرى رجلاً وسيماً يتحدث إلى امرأة تحت ضوء رومانسي، لأن وجهه يذوب في ابتسامة غبية. “هل ستجربين حظك؟”

 

“لا.” فتحت الزر العلوي لمعطفي، ونظرة مات تتجه نحو الفتحة.

 

“ظننت أنكِ باردة؟” 

 

ضربته بحقيبتي. “أجب على السؤال. قل لي ما تعرفه عن رافاييل فيسكونتي، وإلا سأخبر آنا أن لديك سرطان البحر.”

تهديدي لا يؤثر على فرحته، لأنه يكرر نصيحتي السابقة بصوت حاد، وهو على الأرجح يحاول تقليد صوتي. “لماذا لا تذهبين وتتحدثين معه؟” 

 

لا أعرف لماذا لم أخبر مات عن وقاحة رافاييل في وقت سابق. أعتقد أن السبب هو نفس السبب الذي جعلني لا أخبر نيكو أننا التقينا من قبل؛ لأنني كنت سأضطر لشرح كل شيء عن الخداع. لا يعرف مات شيئًا عن ذلك، وكصديقي الوحيد على الساحل، سأبقي الأمر على هذا النحو

بجانب ذلك، لسبب غريب، أحب أن أكون الوحيدة التي تعرف سر رافاييل.

 

قبل أن أتمكن من إخبار صديقي أنني أفضل القفز من قمة جرف ديفلز ديب عندما يكون المد منخفضًا، جعل صوت احتكاك كرسي رأسه يلتفت بزاوية تسعين درجة. تتبع أعين كلانا آنا وهي تقف على قدميها، وتمسد فستانها، وتتمايل بكعب عالٍ على ساحة الرقص نحو البار

لا أستطيع تفسير لماذا يضيق حلقي مع كل تأرجح فاحش لوركها

نبرة مات تبتعد عن المزاح وتكتسب نبرة من الذعر. “لا، بجدية. اذهبي وتحدثي معه.” 

وكأنها موقوتة بدقة، تنزلق آنا إلى الفجوة بجانب رافاييل، نصف ثانية بعد أن تتركها الفتاة الأخرى

تتشبث يدي بقبضة حول منديل ملوث بالشوكولاتة. “لماذا؟ هل تشعر بالقلق من أنه سيسرق فتاتك؟”

 

“بالطبع أنا قلق، انظر إليه اللعنة.” بتردد، نظرت، وفي أسوأ وقت ممكن. يبدو أن شيئًا قالته آنا كان مضحكًا، لأنه مال برأسه نحو الشرفة المتلألئة وضحك. ليس مجرد ضحكة مؤدبة أيضًا، بل من النوع الذي يأتي من أعماق جدران معدته الصلبة. النوع الذي يصعب تزييفه

أعتقد أنه أكذب مما كنت أظن، لأنه في لحظة مجنونة، كدت أصدق ذلك

يا إلهي، لا بد أنني سكرانة

“لم تجيب على سؤالي. إنه حقير، أليس كذلك؟”

 

نظر مات بدهشة. “رافاييل؟ حقير؟ بالطبع لا. بقدر ما أرغب في قوله إنه غبي، لأن الرجل الوسيم مثل هذا يجب أن يكون له بعض العيوب، لكنه ليس كذلك. برنامجه الدراسي يدفع لتعليم مئة طفل فقير للحصول على منحة دراسية كاملة في أكاديمية ساحل الشيطان كل عام. كما يمول مؤسسة “اصنع أمنية” في المستشفى، وتذكرين عندما مرت تلك العاصفة الغريبة عبر ديفيلز ديب قبل أربع سنوات؟” بتردد، أومأت. “لقد دفع هو تكاليف جميع الإصلاحات والأضرار من جيبه الخاص. لابد أنه كلفه الملايين. إنه رجل جيد، على عكس بعض أفراد عائلة فيسكونتي الآخرين…”

 

أتابع نظرته المحددة إلى الطرف الآخر من البار، حيث يحاول بيني أن يثير إعجاب شقراء بسكب سائل البيوتان من ولاعته الزيبو في راحة يده. يكوِّن قبضة بيده، ويضع الولاعة تحتها، ثم ينفخ

أطلق مات كلمة شتم بحدة عندما أضاءت كرة نارية سماء الليل، واللهب الشرس يرقص بالقرب من حاجبي الفتاة بشكل يجعل الأمر غير مريح

“ماذا عن هذا؟ هل الحرائق تجذب الفتيات؟” تمتم، ونبرته مليئة بالسخرية.

 

تجلب نفخة حادة من الرياح ضحكة عالية، مما يمسح الدعابة من شفتيَّ تمامًا. يقترب مات مني، ويغرز فخذه في فخذي، وكأننا رأسان لثعبان واحد، نتبادل النظرات الغاضبة بينما تضحك آنا وتتمايل على شيء يقوله رافاييل. تهز ضحكتها قوامها الرشيق بعنف لدرجة أنها تتعثر إلى الوراء، وعندما يمر ذراع رافاييل حول خصرها لتثبيتها، نحن الاثنين نفغر أفواهنا مثل الثعابين أيضًا

أدفن أفكاري تحت لقمة أخرى من كعكة الشوكولاتة

“أنا في الواقع أتوسل إليك الآن. من فضلك، اذهبي وفرقيهم.” 

 

“مستحيل.” 

 

“فقط اطلبي منه رقصة—” 

 

“لا يوجد أي فرصة في الجحيم—” 

 

“سأعطيكِ مئة دولار.”

 

يجعلني العرض أتوقف قليلاً. أعني، أنا مفلسة جدًا الآن. آكل الرامين الذي كان جالسًا في خزانتي لأكثر من ثلاث سنوات، هذا نوع من الإفلاس

بالأمس، بينما كنت أستنشق رائحة حزام ساعة رافاييل الجلدي، كنت مخدرة من علامات الدولار. لكن الآن عدت إلى الواقع وأدركت أنه ربما سيتعين علي مغادرة الساحل لبيع ساعة فيسكونتي، لأن فرص أن يقبلها صائغ رهونات هنا تكاد تكون معدومة. ومن يعرف متى سأحصل على وظيفة؟ 

“اجعلها مئتين.” 

 

“آه، بحقك. أنا معلم.”

 

“آه، بوو-هوو(عبارة ساخرة تستخدم السخرية من شخص يشكو أو يتصرف وكأنه منزعج من شيء تافه.) ,” رددت بغضب. “أنت تُدرس في مدرسة برسوم حضور أربعين ألف في السنة. أنت لست بالضبط تجمع القرش وراء القرش لشراء أقلامك، أليس كذلك؟” 

 

توقف مات لحظة. “حسنًا. مئة وخمسة وسبعين.”

 

“مئة وخمسة وسبعين وتتخلص من سجادتك الترحيبية.” 

 

“تبا. مئتين وأبقي عليها.” 

 

“اتفاق.”

نختمه بمصافحة، لكن النشوة التي شعرت بها تنزل على عمودي الفقري تليها قشعريرة ثقيلة، لزجة من الرعب. معتاد. كنت مشغولة جدًا بالمال لدرجة أنني لم أرَ المهمة التي أمامي، والآن عليّ أن أذهب إلى رافاييل فيسكونتي، طواعية، وأبدأ محادثة معه. الرجل الذي قال لي تحديدًا أنه يفضل أن يضرب قضيبه في باب سيارة قبل أن يتحدث معي مرة أخرى.

 

دفْع حذاء مات كاحلي. “تحركي.” 

 

“اصمت، أنا ذاهبة,” همست. أفرغت كأس الشمبانيا في ثلاث بلعات، جزئياً لتغطية الرفرفة في معدتي التي لا مكان لها هنا، وجزئياً لأعطي نفسي عذراً للتوجه إلى البار

تنفست الطاولة عندما نهضت على قدمي. اللعنة، لقد شربت كثيرًا بسرعة ولا أعلم لماذا. ليس وكأنني بحاجة إلى شجاعة سائلة، لأنني أملك الحظ

الحظ. صحيح. لقد نسيت عن حظي

أرجع كتفي إلى الوراء، وألمس رباط البرسيم ذي الأربعة أوراق حول عنقي وأهز الطاقة العصبية. إنه مجرد رجل، من أجل الله. وهذه مجرد وظيفة مدفوعة.

مع موجة جديدة من الثقة، أمشي نحو البار، وعيوني مركزة على هدفي. ربما يستطيع سماع خطوات كعبي العالية المثابرة في اتجاهه، أو ربما قد طور حاسة سادسة للمشاكل بين ليلة وضحاها، لكن عينيه ترفعان من كأسه حين اقترب. حتى وهو مضاء من الخلف بأضواء البار الساطعة، أستطيع أن أرى نظرته تنزلق على كعبي السوداء، ثم على فتحة معطفي، وتنتهي إلى عينيّ . شيء ما داخل عينيه يومض للحياة، وللغرابة، أشعر بذلك في نبضي

تذوب حكاية آنا عند وصولي، ويتحول تعبيرها المليء بالشهوة إلى شيء لو كان ملموسًا لحرقني. هي جميلة بشكل مزعج. شعرها أسود كالليل، وملامح وجهها قططية، وجسد أظن أنه يجعل أي شخص ذا عينين يلتفت مرتين.

 

“آسفة جدًا، حبيبتي . هل تمانعي؟” 

تحدق في وجهي. “أمانع في ماذا؟” 

“إذا سرقت رافاييل لبضع دقائق.” 

لا تظهر أي علامات على التحرك، حتى يقطع صوت رافاييل الناعم التوتر

“كان من الرائع أن نتحدث، آنا.” 

تسري قشعريرة مثيرة في جسدي كتيار كهربائي. حتى الأحمق يمكنه أن يلتقط الإشارة، وتبتعد آنا. لقد صنعت بالتأكيد عدواً جديداً على الساحل، وهو أمر مؤسف، لأنني كنت أفضّل أن أكون قد كونت صداقات أولاً، لكنني سأقلق بشأن ذلك لاحقًا. الآن، أنا مركزة جدًا في محاولة التظاهر بأنني لا أستطيع أن أشعر بصوت وجود رافاييل بينما أطلب مشروبًا

“أتعلمين؛ بدأت أعتقد أن لديك إعجابًا بي.”

 

يشتد فكي، وأبقي عينيَّ مركّزتين على ذيل الشعر المربوط للنادلة بينما تحضر لي فودكا وعصير الليمون. “ما الذي يجعلك تعتقد ذلك؟”

 

“لأنك لا تبدين قادرة على تركي وحدي.” 

يغمر وجهي شعور من الإحباط، والخجل، وشيء أكثر حيوية، كما لو أن إبرًا ودبابيس تنغرس في وجهي. إنه أمر سخيف، أعلم، ولكن معرفة أنه لا يتحدث مع النساء الأخريات هكذا يجعل الإثارة تطن تحت جلدي

مؤسف. لأنه بالطبع يتحدث معي هكذا — أنا سرقت ساعته اللعينة

“أو ربما فقط أريد أن أراك تغلق قضيبك في باب السيارة.” 

 

“أو ربما فقط تريدين أن ترِ قضيبي.”

 

تجمدت في مكاني، ثم التفت برأسي لأحدّق فيه. وعندما سمحت بمرور لحظة صمت مذهولة، ابتسمت شفاه رافاييل قبل أن تختفي خلف رشفة بطيئة من الويسكي. يظن أنه قد فاز. احمرار خدي يصبح أكثر سخونة من مصباح الحرارة فوق رأسي، وأطلق ضحكة ساخرة

“غريب. الجميع يبدو أنه يظن أنك رجل محترم، ولكن التحدث عن قضيبك بهذا الشكل ليس عادة محترمة.” 

 

الشيء الوحيد الذي يتحرك هو العضلة التي تنتفخ تحت فكه. ثم، بنفس التردد الذي يشعر به الشخص عند النهوض من السرير في الصباح، يوجه نظره إليّ. 

“وأنتِ؟ ماذا تعتقدين؟” 

 

“أعتقد أنني لست سهلة الخداع.”

 

تسقط عيناه على شفتيّ، وتنتشر ابتسامة بطيئة وشريرة على شفتيه. وعلى الرغم من أن ابتسامته باردة، إلا أنها تخلق دفئًا في داخلي، ينتشر كنسيم صيفي بين ساقيّ.

 

“وأنتِ، بينيلوبي ؟ هل أنتِ سيدة؟” 

 

لا أحب الحافة الساخرة في نبرته. الحرير الملوث بالسخرية يثير غضبي. أرفع ذقني وأشدد نظرتي. “نعم.” 

 

يمرر يده عبر وجهه، ماسحًا لمحة من التسلية. “آه.” 

 

“آه ماذا؟” 

 

“أنا أيضًا لست سهل الخداع.”

نبرته منخفضة وناعمة، كما لو أنها مصممة لأذنيّ فقط. تمر طاقة عصبية عبر أكتافي، فأضغط كفّيّ على الطاولة لتحمل وطأتها. بالطبع، هو لا يظن أنني سيدة. أنا لست كذلك. لا سيدة ترتدي فساتين مع وجود ملصقات الأمان عليها، ولا يصنعن رزقهن من خداع الرجال لسرقة ساعاتهم في ليلة خميس

أتنهد بتنهيدة مرتجفة، وعيناه تضيّقان على البخار الذي يتصاعد بيننا

“ماذا كان الذي أردتِه، مرة أخرى؟ أن تلعبين إحدى ألعابك الرخيصة؟” 

 

“إذا كنت شجاعًا بما يكفي.” 

لا أعرف لماذا أقول ذلك—لقد أصبحت مستقيمة—لكنها خرجت من فمي قبل أن أستطيع إيقافها. رد فعل تلقائي على إهانة، أظن، متجذّر في أعماقي مثل باقي عيوبي.

 

“لا.” 

نبرته حادة وقاطعة، يتخللها رشفة من الويسكي. يوجه انتباهه إلى المساحة فوق رأسي، كما لو كان يبحث عن شخص آخر، أي شخص آخر، ليتحدث إليه

لقد منحني مخرجًا سهلًا، لكنني فخورة جدًا لأخذه

“خائف أن تخسر مرة أخرى؟” 

 

“ما الذي يجعلكِ واثقة من أنكِ ستفوزين؟” يقولها بنغمة مملّة، والمرح يليّن حواف كلامه مرة أخرى.

 

“لأنني محظوظة.”

 

ابتسامته تحتفظ بشكلها، لكنني لا أفتقد الارتعاشة من الاستياء التي تمر عبر نظرته كتيار خفي. تمر ثلاث ضربات ثقيلة من الصمت

يحك حلقه وينظر إلى السماء الخالية من النجوم بينما يبتلع آخر ما تبقى من الويسكي. ثم، بحركة سريعة من معصمه، ينزلق بالكأس الفارغة عبر الطاولة، ويغمرني بدفء اهتمامه.

“هل لديكِ لعبة في ذهنك؟” 

 

“نعم.” لا، ولكن إذا كانت ثلاث سنوات من أداء هذه اللعبة قد علمتني شيئًا، فهي أن عليك أن تكون الشخص المتحكم. إذا سمحتُ له باختيار لعبة، فإن فرصي في الخسارة ستزداد مئة ضعف

أخذ رشفة بطيئة من شرابي، لشراء الوقت لكي أبحث في قائمتي الذهنية للألعاب التي تُلعب في البار. يستغرق الأمر وقتًا أطول من المعتاد، لأنه من الصعب التركيز وسط الصوت الذي يصرخ في داخلي أن أبتعد. مثل الاختبار، يجب أن تكون شيئًا آمنًا، بدلاً من الغش الفج. أختار واحدة من قائمتي وأضع كأسي على الطاولة بصوت راضٍ. 

“جاهز؟”

 

رفع رافاييل راحة يده. “لم نتفق بعد على الرهان.”

 

“إذا فزتْ، أريد تلك الساعة أيضًا.” أومئ إلى ساعة “سيماستر” على معصمه. فكرة خداع رافاييل فيسكونتي من أجل ساعتين من ساعاته تجعل فمي يسيل

 

“وإذا فزتُ أنا؟” 

تجعل النبرة المفاجئة في صوته شعري يقف على مؤخرة عنقي. نظرت من معصمه إلى وجهه وتمنيت على الفور لو أنني لم أفعل. لم أكن مستعدة للخطر الذي يرقص بين جدران بؤبؤي عينيه

ابتلعت العقدة في حلقي، وأنا الآن أدرك تمامًا أن حلمات صدري قد تصلبت تحت قماش صدري. هو فقط رجل. هو فقط رجل. هو فقط رجل

“ماذا تريد؟” همست.

 

يُثبت عينيه في عينيّ لثانية أطول مما يجب. يلعق شفتيه، وتمر لمحة ضئيلة من شيء غير مهذب عبر نظرته الخضراء. وعندما بدأت أشعر أن التوتر قد يختنقني، يهز رأسه بحركة صغيرة

“أن تغادري.” 

 

أرفُّ عينيّ. “ماذا؟” 

 

يبتسم ابتسامة ساخرة على مفاجأتي. “أود أن أستمتع بزفاف أخي في سلام، دون أن تلاحقيني.” تقع عيناه على شيء خلفي، ثم يخرج نفسًا ساخرًا. “بطريقة ما، لا أظن أن رفيقُكِ سيُمانع.”

 

أتبعت خط نظره إلى مات. في آخر خمس دقائق، تمكن بطريقة ما من أن ينمو زوج من الكرات وينتقل إلى طاولة آنا. جلس مقابلها، محشورًا بين صديقين، ويحدق فيها بشدة كما لو كان قاتلًا متسلسلًا. ألقيت نظرة سريعة على طاولتنا الخاصة ورأيت أربعة أكواب خالية من المشروبات الكحولية مصطفة بعناية في مكانه

مناسب

“تم.” قلتُ ذلك بشكل غير مكترث. تبًا، لن أراه بعد الليلة. سيعود إلى طائرته الخاصة ويعود إلى لاس فيغاس، ثم ربما يظهر في عيد الفصح أو شيء من هذا القبيل. سأكون قد اختفيت بحلول ذلك الوقت – آمل ذلك

خدعة واحدة أخرى. فقط واحدة… ثم سأكون مستقيمة كما قلت.

 

طلبت كوبين كبيرين من الماء، ثم نظرت إلى رافاييل من تحت رموشي الاصطناعية. “ما هو مشروبك المفضل؟” 

 

“ويسكي، بالطبع,” قال، وهو يبتسم بفكاهة

أومأت إلى النادل. “ثلاثة كؤوس سامبوكا، من فضلك.” 

دفئ خدي تحت ضحكته الناعمة. كان ذلك لذيذًا وسهلًا، وفجأة فهمت لماذا تضحك النساء بصوت عالٍ حوله

“حسنًا.” صففت كوبين من الماء أمامي، ثم وضعت ثلاثة كؤوس سامبوكا أمامه. “أراهن أنني أستطيع شرب هذين الكوبين الكبيرين من الماء قبل أن تشرب تلك الكؤوس الثلاثة.” 

 

رافعا يده على فكه، كان نظره الضيق يحلل الماء والكؤوس أمامه. “لا يمكن أن تفعلي ذلك. ما هو الشرط؟”

 

“كل ما أطلبه هو بدء مميز. إنه كمية كبيرة من السائل، أليس كذلك؟” 

 

يومض الشك في عينيه. “كم من الوقت تريدين أن تبدأ قبل؟” 

 

“أم، دعنا نقول، كوب واحد؟” 

 

يفكر في الأمر لبضع ثوانٍ، ثم يهز كتفيه. “يبدو عادلاً. القواعد؟” 

 

“قاعدة واحدة فقط: لا لمس أكواب بعضنا البعض، كما تعلم، لا تقلبها أو تزيلها. هل أنت مستعد للبدء؟” 

راقبني بعناية، ثم أومأ.

 

أبتلع أول كوب من الماء بسرعة وسهولة. أحب هذه اللعبة لسببين. الأول هو أن شرب كل هذه المياه طريقة رائعة لتجنب الإصابة بالصداع الناتج عن السكر. الثاني هو أن هذه خدعة بسيطة، ومع ذلك لا يكتشفها أحد

يسمح لي البدء المسبق بتحرير أحد أكوابي، وبمجرد أن يبدأ رافاييل في الشرب، سأضع الكوب رأسًا على عقب فوق أحد كؤوسه. لن يُسمح له بتحريك كوبّي حسب قاعدة “عدم اللمس”، وسأرتشف الكوب الثاني من الماء بابتسامة غارقة في الغرور على شفتيّ، ومع ساعة جديدة بستة أرقام على معصمي.

 

أمسح يدي على فمي وأضع الكوب الفارغ، ثم ألتفت إلى رافاييل. “شكرًا على الميزة التي منحتني إياها”، قلت ذلك بحلاوة

 

“في أي وقت.” 

 

“هل أنت مستعد؟” 

تلمع نظراته. وهو يحدق في شفتي السفلية المبللة، أومأ ببطء.

 

لكن ما يفعله بعد ذلك أسرع بكثير. إنه سلس وفعّال لدرجة أن دماغي المشوش من الكحول يستغرق بعض الوقت ليلحق به. يدفع جميع أكواب الشراب الصغيرة الثلاثة معًا، بحيث تصبح محيطاتها مجتمعة أكبر من حافة كوب الماء الفارغ. قبل أن أتمكن من الوصول إلى ماءي في محاولة أخيرة للفوز بهذه اللعبة بطريقة عادلة—مستحيل بالطبع—تحدث ومضة من المعدن، ثم صوت ارتطام ثم انغمار، ثم أنا أحدق في مسدس غارق في الماء

ماءي. مسدسه

يقفز نبضي في حلقي وأتراجع إلى الوراء. بينما أحدق في السلاح، مع فوهته التي تطفو بين مكعبات الثلج ومقبضه المستريح على الحافة التي كنت على وشك وضع شفتاي عليها، كل شيء في محيطي يظلم.

 

كنت قريبة جدًا من مسدس مرتين في حياتي. المرة الأولى كانت عندما رفعت حافة فستاني في زقاق مظلم، والمرة الثانية كانت عندما كان المسدس مضغوطًا ضد صدغي.

فحيح. نقرة.

هل تعلمين كم أنتِ محظوظ، يا فتاة؟ أنت واحدة من مليون.

يتلاشى الصوت الخفيف للأوركسترا ويصبح دق قلبي أعلى. ينبض قلبي في فراغ صدري تحت عباءة من الخدر.

لم أستطع التحرك حتى لو حاولت.

يتحرك المسدس في ومضة من السترين والحرير. أستعيد ما يكفي من رباطة الجأش لأتابع السلاح بينما يسحبه رافاييل من الكأس ويمسحه بمنديله.

 

تنفتح سترة بدلته برفق، وفجأة، يختفي التهديد، ويختبئ خلف الستارة المخملية.

يستريح بذراعه على الطاولة ويحول انتباهه إلى شيء في الأفق.

عندما يتحدث، هناك هدوء في صوته لا يفعل الكثير لإذابة الجليد في دمي.

 

“أنتِ ترُ المشكلة في الحظ، بينيلوبي ، هو أنه يمتلك عادة سيئة في الاختفاء عندما تعتمدين عليه.” يغمز رابطًا أزرار أكمامه على شكل نرد لي بينما يتناول جرعة من الشراب. “يجب أن تفكري في الاعتماد على شيء أكثر متانة.” جرعة أخرى، صوت آخر. “مثل الذكاء، أو المعرفة.” ينخفض نظره إلى شفتيّ . “أو، إذا لم يكن لديكِ أي من هذين، ربما وجهك الجميل.” يضرب آخر كأس على الطاولة ويمسح ابتسامته بكفه، ثم يمشي إلى الأمام حتى يصبح كتفه إلى كتفي.

 

أحاول تجاهل كيف تحترق حرارة ذراعه من خلال معطفي، أو كيف تستهزئ بي رائحة العرقسوس الحارة لأنفاسه من خسارتي. بدلاً من ذلك، أركز على جدار الكحول وراء البار، محاولةً السيطرة على تنفسي

 

ينحني للأسفل، وخده الحاد والبارد يلامس خدي. “المخرج على يمينك.” ثم يمرر يده الكبيرة حول معصمي. إنها حارة وسلطوية، وأقسم أنني أستطيع سماع جلدي وهو يغلي حيث يمسك بي

أبدّل محاولة السيطرة على تنفسي بتجنب التنفس تمامًا.

 

“كوني حذرة في الغابة، بينيلوبي .” تنزلق قبضته عن معصمي، وأصابعه تترك أثرًا حارقًا بطيئًا على طول راحة يدي قبل أن يتركني. “الأشياء السيئة تختبئ حيث لا يمكنك رؤيتها.” 

 

ثم يختفي، متخفيًا بين بحر البذلات

 

لم أبق في المكان. على الرغم من أنني أقاتل لأبقى هادئة، فإن الوضع الآلي يتولى جسدي، وأدور على كعبي وألتقط حقيبتي من الطاولة. لا أستطيع أن أجبر نفسي على النظر إلى مات، وآمل ألا يلاحظ مغادرتي أيضًا.

 

أبدأ في الجري بخطوات سريعة وأختفي بين الأشجار وفي الظلال. يخف الأمن والشجيرات تزداد كثافة، حتى يصبح الظلام يبتلع كل شيء. الصوت الحي للأوركسترا يذوب أخيرًا، ويحل الصمت الذي يذكّرني بشكل غريب بأنني وحدي تمامًا

يخترق تأوهي الصمت، مما يجعل الليل يبدو رماديًا

كنت محظوظة منذ تلك الليلة التي خرجت فيها تلك السيدة إلى الزقاق وأعطتني عقدها. محظوظة لدرجة أن ذلك أصبح في الواقع السمة الوحيدة لشخصيتي. كنت قلقة من أن الحظ قد تخلى عني عندما تم القبض علي في أتلانتيك سيتي، لكنني اعتبرت ذلك ضربة حظ سيئة. بعد كل شيء، كنت محظوظة بما يكفي للعودة إلى السواحل بكل المال الذي تبقى لي، ثم تأمين ساعة بستة أرقام في نفس الليلة

لكن ربما كان ذلك ضربة حظ سيئة أيضًا، لأنه قادني إلى رافاييل فيسكونتي .

 

لقد زدت من سرعتي دون أن أدرك ذلك. رئتاي تحترقان وعيوني تلسعها الدموع التي أنا عنيدة لدرجة أنني لا أسمح لها بالخروج. بينما أمرر أصابعي على لحاء شجرة خشنة وأمد يدي إلى شجرة أخرى، تعثرت قدمي بجذر، ليتدحرج كاحلي تحت جسدي

“اللعنة”، همست في الظلام

يا له من حظ سيء!

 

يصرخ كاحلي من الألم، لكنني أتعثر وأستمر. لا أتوقف، حتى تبدأ الأشجار بالاختفاء ويظهر ضوء برتقالي خافت يقطع من خلال الفجوة. بعد بضع ثوانٍ، يظهر مصباح شارع وحيد في الأفق، والأرض تصبح صلبة تحت كعب حذائي الموحل. الآن بعد أن أستطيع أن أرى ما أتمشى عليه، أنزل كعبي وأبدأ في النزول المهتز على التل المنحدر، ملاصقة لحافة الطريق المتعرج الذي يؤدي إلى المدينة الرئيسية. عندما تبدأ قدمي في الألم، أرتدي كعبي مجددًا، وهو تحسن مشكوك فيه.

 

بينما ينخفض الأدرينالين الذي يجري في عروقي من حالة النشاط إلى همسات هادئة، يفسح المجال لشعور آخر: القلق

ستلحق خطاياك بكِ في النهاية، يا بيني. دائمًا ما يحدث ذلك

تتسلل كلمات نيكو إلى مؤخرة دماغي مثل ذكرى أحاول قمعها. ربما كان لها معنى أعمق، واحد حتى هو نفسه لم يكن يدركه. ربما لا يحصل الخطاة على الحظ. ربما يحدث الحظ الجيد للأشخاص الطيبين، والحظ السيئ للأشخاص السيئين.

 

لم أكن طيبة منذ أن كان عمري عشر سنوات. لماذا يجب أن أكون محظوظة؟ ما الذي فعلته لأستحق الحظ الجيد في هذه الحياة، باستثناء خداع الناس وسرقتهم من أموالهم؟ 

أنا غارقة تمامًا في مستنقع أفكاري الخاصة لدرجة أنني لم أدرك أنه فاتني المنعطف إلى الشارع الرئيسي حتى صفعتني نسمة هواء مالح على وجهي

أنا في الميناء. تصطك أسناني بينما أوجه نظري نحو المساحة المفتوحة المفاجئة. على الرغم من الوقت، إلا أنه مكان مليء بالنشاط. في المقدمة، تعطي الشاحنات صفيرًا، والسترات العاكسة تلمع في مصابيحها الأمامية، وخلفها، تترنح السفن التجارية وتتحرك فوق الأمواج العاتية للمحيط الهادئ.

 

ينخفض نظري إلى حذائي. إنه مغطى بالطين الموحل ولا أستطيع أن أشعر بأصابعي. فكرة العودة صعودًا إلى منحدر الشاطئ إلى شقتي تجعلني أئن بصوت عالٍ، لذلك قررت أن أستريح لدقائق قليلة بجانب مبنى إداري ضخم

 

أضع رأسي على جدار الطوب، والمشاعر تختنق في حلقي بينما أشاهد الرجال يعملون. أنا عادةً لست شخصًا عاطفيًا، ولكنني أنا لست شخصًا عاطفيًا عادةً، لكنني أميل إلى البكاء قليلاً عندما أشعر بالتعب

أحتاج إلى شخص أتحدث معه

أحتاج إلى صديق

أبحث عن هاتفي المؤقت في حقيبتي، ومع أطراف أصابعي المتجمدة، أدخل الرقم الوحيد الذي أعرفه عن ظهر قلب

يرن الخط ثلاث مرات، ثم يدخل البريد الصوتي

“لقد وصلت إلى مجموعة الخطاة المجهولين ، يرجى ترك خطيئتك بعد النغمة.”

 

أستنشق نفسًا عميقًا من الهواء؛ وأزفره نحو السماء الخالية من النجوم

“مرحبًا، أنا مرة أخرى. أعلم، أعلم. مكالمتان في أقل من أربع وعشرين ساعة. غريب، صحيح، خاصة أنكَ لم تسمع مني منذ ثلاث سنوات، أليس كذلك؟” 

أشعر بأنفي وأنا أستنشق الهواء، عاقدة دموعي. أفتح فمي ولكن أغلقه مجددًا، مدركة أنني لا أريد أن يظن أقدم صديق لي أنني غبية. نعم، حتى لو كانت مجرد خدمة آلية. زفرت، ضغطت على زر الإغلاق وأعدت هاتفي إلى حقيبتي

“إذا كانت هذه هي كارما لما فعلته في كازينو الإعصار، فقط أعطني إشارة”، تمتمت للكون.

 

كارما: هي الفكرة التي تنص على أن أفعال الشخص، سواء كانت جيدة أو سيئة، ستعود إليه في النهاية، إما في هذه الحياة أو في حياة قادمة.

 

يمر ضوء ساطع فجأة على وجهي. أرمش وأضع يدي على عينيّ، أراقب شاحنة كبيرة تقترب من مستودع النقل، وأضواءها الأمامية مشتعلة بالكامل

يقفز سائق شاحنة بطنه المنتفخ من الكابينة، ويخرج عامل من مستودع النقل، وراديو في يد ولوحة بيانات في اليد الأخرى. محادثتهما مليئة بنظرات مشوشة إلى اللوحات وجرعات كسولة من الأكواب المعزولة

في النهاية، يربت العامل على كتف السائق ويتوجه في اتجاهي. أضواء الشاحنة تضيء مثل هالة خلفه

ذلك هو آخر شيء أتذكره قبل الحرارة الحارقة والانفجار المدوي. آخر شيء رأيته قبل أن يضيء سماء الليل باللون البرتقالي، ثم يغرق عالمي في الظلام

ربما كانت هذه هي إشارتي، على ما أظن.

أضف تعليق