لو كانت العواصف تُصنع من صحف الفضائح، وطوابير من الرجال مرتدين كرافتات مشدودة، ورسائل ذات أصول مشبوهة،
فإن عاصفة مثالية كانت تتكوّن في عالم إيفانجلين في صباح اليوم التالي.
لكنها لم تكن تعلم بذلك بعد.
كل ما كانت تعرفه هو تلك الرسالة الغامضة الأصل، والتي دفعتها للتسلل خارج المنزل عند طلوع الفجر.
—————————————
قابلني.
في متجر التحف الغريبة.
أول شيء بعد شروق الشمس.
—لوك
——————————————
كاد قلب إيفانجلين أن ينفجر من شدة الخفقان حين عثرت على الرسالة في غرفتها ليلة البارحة.
لم تكن تعرف إن كانت رسالة جديدة أم قديمة ولم تجدها إلا الآن.
لكنها ظلت تقرؤها مرارًا وتكرارًا حتى غفت، آملةً أن يكون لوك بانتظارها في الصباح
مع قصة مختلفة عن تلك التي سمعتها من ماريسول.
لقد زعزعت محادثة الأمس مع ماريسول يقينها؛ وكادت تقنعها بأنها كانت تخدع نفسها بشأن لوك.
لكن الأمل شيء يصعب قتله، فمجرد شرارة منه قادرة على إشعال حريق،
وهذه الرسالة قد أهدتها تلك الشرارة من جديد.
كان والدها يمتلك أربعة متاجر ونصف عبر فاليندا. كان الشريك الصامت لنصف المتجر خياط يحيك الأسلحة داخل الملابس.
وقد بنى مكتبة سرية لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال ممر سري.
ثم كان هناك متجره في حي التوابل، المزيَّن بملصقات “مطلوب” تحمل تعليقات أشبه بقصص جرائم خيالية.
أما متجره الثالث فكان سرًّا حتى عن إيفانجلين نفسها.
أما المتجر الرابع، فكان المفضل لديها متجر التحف الغريبة ماكسيميليان، وخيالاته، وغرائبه الأخرى.
ذلك المتجر هو المكان الذي بدأت فيه إيفانجلين العمل ما إن سمح لها والدها بذلك.
كان والدها يقول للزبائن إن كل ما في المتجر يكاد يكون سحريًا.
لكن إيفانجلين كانت دائمًا تعتقد أن بعض الأغراض التي مرت على متجره كانت مسحورة فعلاً.
كانت كثيرًا ما تطارد قطع شطرنج خرجت من ألواحها، وأحيانًا كانت اللوحات تغير تعابيرها من يوم لآخر.
ضاق صدر إيفانجلين بشيء يشبه الحنين وهي تدور حول الزاوية المؤدية إلى الشارع المرصوف بالطوب حيث يقع متجر تحف ماكسيميليان.
لقد افتقدت المتجر خلال الأسابيع التي قضتها كتمثال حجري، لكنها لم تشعر بمدى هذا الفقد إلا في تلك اللحظة.
افتقدت الجدران التي رسمتها والدتها، والرفوف المكدسة بمقتنيات والدها، والجرس—
توقفت إيفانجلين فجأة.
كان متجر تحف ماكسيميليان قد أغلق أبوابه. النوافذ المبطّنة بالنحاس تم تغطيتها بالألواح.
والمظلة قد اقتُلعت، ورُسم على الباب طلاء جديد يُخفي الاسم السابق:
تحت ملكية جديدة
مغلق حتى إشعار آخر
“لا!” صاحت إيفانجلين، “ليس المتجر!” وبدأت تضرب الباب مرارًا وتكرارًا.
كان هذا آخر ما تبقّى لها من والدها. كيف يمكن لأغنيس أن تفعل هذا؟
“عذرًا، ايتها الانسة الصغيرة.” سقط ظل دورية ممتلئ فوقها. “يجب أن تتوقفي عن الطرق.”
قالت بإصرار “أنت لا تفهم. هذا المتجر كان لوالدي—وقد أوصى به لي.”
واستمرت في الطرق، وكأن الباب قد يُفتح بسحر ما، وكأن لوك يقف خلفه، وكأنها لم تفقد لتوّها آخر أثر من والديها.
“منذ متى وهو مغلق؟”
قال الحارس “أنا آسف، آنسة. أظنه أُغلق منذ نحو ستة أسابيع و—”
ثم أضاء وجهه فجأة وقال “يا للعجب — إنها أنتِ منقذة فاليندا الحبيبة.”
وتوقف ليمسّد شعره.
“لو سمحتي ، يا آنسة، فأنتِ أجمل حتى مما تصفه الصحف. هل تعلمين من أين يمكنني الحصول على إحدى تلك الطلبات؟”
قالت إيفانجلين، وقد أوقفها القلق عن الطرق فجأة “طلبات ماذا؟”
مدّ الحارس يده إلى جيبه الخلفي وأخرج ورقة من صحيفة بالأبيض والأسود…
______________________________
صحيفة الهمسات
من الشوارع إلى التماثيل إلى النجومية:
مقابلة مع منقذة فاليندا المحبوبة
بقلم: كوتلاس نايتلينغر
تبدو إيفانجلين فوكس، ذات السبعة عشر عامًا، كأميرة من قصص الخيال، بشعرها الوردي المتلألئ وابتسامتها البريئة. لكنها قبل أسابيع فقط، كانت يتيمة بلا والدين. وعندما تحدثتُ معها مؤخرًا، أخبرتني أنها لا تتذكر آخر مرة تناولت فيها الطعام.
لم تُدعَ إلى حفل زفاف لوس نافارو وماريسول تورمالين – التي يعرفها الكثيرون بلقب “العروس الملعونة” – ومع ذلك، عندما صادفت إيفانجلين هذا الحفل وقد تحوّل كل من فيه إلى حجر على يد أحد الأقدار، لم تتردد في إنقاذهم جميعًا، بأن أخذت مكانهم وتحولت إلى تمثال.
قالت لي
“أعتقد أنني فعلت ما كان ليفعله أي شخص آخر في مكاني. أنا حقًا لستُ بطلة.”
كانت إيفانجلين متواضعة للغاية، وكان من الصعب أن تتحدث عن بطولتها. لكنها، منقذة فاليندا المحبوبة، كانت متحمسة للكلام حين ذكرتُ والدة العروس الملعونة، أغنيس تورمالين، وخططها الكريمة لتبنّي إيفانجلين.
قالت
“أشعر وكأن الرعب الذي عشته يتحول إلى قصة خرافية.”
كما أخبرتني أغنيس أن إيفانجلين تتطلع إلى المضي قدمًا في حياتها بأسرع وقت، وهي الآن تقبل خطّاب الزواج من خلال تقديم الطلبات الرسمية لطلب يدها—
______________________________________
“يا إلهي…” قالت إيفانجلين بابتسامة غير مستقرة لحارس الدورية. “أنا آسفة، هذه الصحيفة مخطئة. أنا لا أبحث عن خطّاب.” ارتجفت لمجرد استخدام الكلمة. لم تُفاجأ. كانت تعلم أن عناق أغنيس وابتسامتها بالأمس لم يكونا صادقين. لكن لم تكن تتوقع أن تبيعها زوجة أبيها بهذه السرعة.
كان المارة في الشارع قد بدأوا بالفعل بالتوقف والتحديق. وبعض الرجال المتحمسين بدا أنهم يجمّعون شجاعتهم للاقتراب منها.
ولو كان جاكس حاضرًا، لربما اعتبر الأمر دليلاً على أنه خدمها بجعلها مشهورة. لكن هذا لم يكن ما تريده.
ألقت إيفانجلين بورقة الفضيحة في أقرب سلة قمامة، ونظرت مرة أخرى إلى رسالة لوك. كانت الرسالة قديمة. أدركت ذلك الآن—ما كان ليرسلها وهو يعلم أن المتجر مغلق.
لم تكن إيفانجلين ترغب بالبكاء بقدر ما كانت ترغب بالعودة إلى الوراء، إلى ما قبل.
إلى ما قبل أغنيس، إلى ما قبل لوك، إلى ما قبل فقدان والديها. كانت تريد فقط عناقًا آخر من والدها، ولمسة واحدة من والدتها وهي تمسّد شعرها. الألم الذي شعرت به لفقدان لوك لم يكن سوى خدش مقارنةً بغياب والديها. كانت لا تزال تحب لوك، لكنها كانت تفتقد الحياة التي فقدتها أكثر.
كان من الصعب ألا تشعر بالحزن وهي تخطو عائدة نحو المنزل، الذي لم يعد منزلًا لها منذ وفاة والدها. كانت عادةً تعشق المدينة. تحب ضجيجها، ازدحامها، ورائحة الكعك الطازج المتسللة من المخبز عند الزاوية. لكن في هذا اليوم، كانت رائحة الشارع تعبق بعطر غريب ومفرط.
وشعرت بالغثيان، لكن ما جعلها تتجمد مكانها كان منظر الرجال المتأنقين المنتظرين أمام منزلها. يرتدون أفضل معاطفهم وعباءاتهم وقبعاتهم، مصطفين أمام الباب حيث وقفت أغنيس تستقبل الزهور والمجاملات وصفحات الطلبات بسعادة.
“إنها تقبل الخطّاب عبر تقديم طلبات الزواج—”
انقبضت يدا إيفانجلين بغضب. كان بعض الرجال جذابًا إلى حد ما، لكن كثيرين منهم كانوا في عمر والدها أو أكبر. ربما كانت لتستدير وتغادر، لولا أن أغنيس أغلقت متجر التحف. لكنها شعرت أنها تميل للمواجهة أكثر من الهروب.
سارت نحو المنزل بابتسامة متظاهرة.
“ها هي!” همست أغنيس بتصنع.
لكن إيفانجلين لم تمنحها فرصة لقول المزيد. استدارت نحو الرجال، رفعت صوتها وقالت
“شكرًا لحضوركم، لكنني أود أن يغادر الجميع.”
ثم توقفت، ورفعت يدها اليسرى إلى جبهتها بتمثيل درامي، وأغلقت عينيها مقلّدة حركة رأتها ذات مرة في مسرحية حزينة حضرتها مع والدها
“لم أعد تمثالًا، لكنني لا أزال ملعونة، وأي شخص أقبّله سيتحوّل إلى حجر.”
انطلقت همهمات:
“إلى حجر…”
“ملعونة!”
“أنا راحل من هنا!”
تفرق الرجال بسرعة، ومعهم تلاشت ابتسامة زوجة أبيها المصطنعة.
أمسكت أغنيس بكتفي إيفانجلين وغرست أصابعها فيها. “ما الذي فعلتِه، أيتها الفتاة التعيسة؟ هؤلاء الخطّاب لم يكونوا لك فقط. كانت هذه فرصة ماريسول لتستعيد الاهتمام!”
تألّمت إيفانجلين وابتعدت. شعرت بوخز من الذنب تجاه أختها غير الشقيقة، لكن كما اتضح، ماريسول لم تكن قد تجاوزت لوك أيضًا.
“لا تظهري نفسك كضحية،” قالت إيفانجلين. “أنتِ من أخطأ، وأنتِ من بعتِ متجر والدي. المتجر كان من نصيبي حسب وصيته.”
“لقد اعتُبِرتِ ميتة.” تقدّمت أغنيس بخطوة مهددة.
تجمدت إيفانجلين. لم يسبق لأغنيس أن ضربتها، لكنها أيضًا لم تمسك بها بقوة من قبل. وكرهت أن تفكر بما قد تفعله بعد ذلك. فلو طردتها من المنزل، فلن يكون لها مكان تذهب إليه.
وربما كان عليها التفكير في ذلك قبل أن تطرد الخطّاب، لكن الوقت فات، ولم تكن متأكدة أنها كانت ستتراجع.
“أتمنى ألا يكون هذا تهديدًا، أغنيس.” قالت بصوت حاولت أن تجعله قويًا. “لا تعلمين من قد يكون ما يزال يستمع، وسيكون من العار أن تصل حقيقتك إلى شخص مثل كوتلاس نايتلينغر.”
توهجت فتحات أنف أغنيس. “كوتلاس لا يستطيع حمايتك إلى الأبد. يجب أن تكوني أدركتِ مدى سرعة تغيّر اهتمام الشبان. سيتركك كوتلاس نايتلينغر كما تركك حبيبك لوك.”
طعنتها الكلمات في قلبها مباشرة.
ابتسمت أغنيس كما لو كانت تنتظر هذه اللحظة. “كنت سأنتظر لأُري هذه الرسالة لماريسول أولًا، لكنني غيّرت رأيي.” سحبت ورقة من بين طلبات الزواج، وناولتها لإيفانجلين.
ترددت إيفانجلين قبل أن تفتحها.
_______________________
ماريسول، كنزي الأغلى،
أتمنى لو لم أضطر إلى الوداع بهذه الطريقة. لكنني آمل ألا يكون وداعًا حقيقيًا.
أنا أغادر فاليندا على أمل أن أجد معالجًا.
في المرة القادمة التي ترين فيها وجهي الجميل، سأكون لوك الذي أحببته أول مرة،
وسنكون معًا من جديد.
مع كل نبضة من قلبي—
________________________
لم تكن بحاجة لقراءة المزيد. كانت تعرف خطّ لوك من أول نظرة.
كتب لها رسائل من قبل، لكنها كانت دومًا قصيرة مثل تلك التي وجدتها الليلة الماضية. لم يسبق أن ناداها بـ”كنزه الأغلى” أو ذكر قلبه النابض.
“هذا مستحيل…” تمتمت إيفانجلين. “ما الذي فعلتِه به؟”
ضحكت أغنيس. “أنتِ حقًا طفلة غبية. كان والدك يقول دائمًا إنكِ تؤمنين بالأشياء التي لا تُرى وكأنها نعمة. لكن حان الوقت لتبدئي بالإيمان بما ترينه أمامك.”
عاشت عائلة لوك نافارو في أحد أطراف المدينة الراقية، حيث كانت المنازل أكبر ومتباعدة أكثر. وكان ذلك النوع من الأحياء يجعل إيفانجلين دائمًا تشعر بالحاجة إلى أخذ نفسٍ عميق كلما اقتربت منه.
في اليوم الذي أعلنت فيه ماريسول خطوبتها على لوك، ركضت إيفانجلين طوال الطريق إلى هنا. طرقت باب منزل لوك، وهي واثقة أنه حين يُفتح، سيخبرها لوك أن كل ما حدث كان مجرد سوء تفاهم كبير.
كان لوك حبها الأول، وأول قبلة، وكان قلبها حين توقف قلبها عن النبض.
لم تستطع تخيل أنه لا يحبها، كما لو أن الأمر مستحيل كاستحالة السفر عبر الزمن.
كان جزء منها يعلم أن ذلك ربما يكون صحيحًا، لكن روحها كانت تؤكد العكس.
كانت تتوقع أن يؤكد لها لوك ذلك. لكن لوك لم يخبرها بأي شيء.
أرسلها الخدم بعيدًا وأغلقوا الباب في وجهها. وفعلوا الشيء نفسه في اليوم التالي،
وكل يوم يليه.
لكن اليوم كان مختلفًا أخيرًا.
اليوم، لم يجب أحد حين طرقت الباب.
لم تسمع إيفانجلين أي خطوات داخل المنزل، ولا أصواتًا. وعندما وجدت فتحة صغيرة بين الستائر المسدلة، لم ترَ سوى الأثاث مغطًى بالأغطية البيضاء.
لقد غادر لوك وعائلته، تمامًا كما قالت رسالته.
لم تكن إيفانجلين تعلم كم من الوقت بقيت واقفة هناك. لكن في النهاية،
تذكّرت كلمات جاكس، وبدأت تتساءل إن كان محقًا عندما قال:
لو كان يحبك، لما تزوج غيرك. نهاية القصة.