الفصل الثاني عشر

لم تكن إيفانجلين تعرف إن كان ضوء القمر أو سحر الشمال الغريب هو السبب، لكن الضباب قد تحول إلى بخار متلألئ أضاء الشوارع وجعل رؤوس أشجار الإبر تتلألأ بلمحات من الذهبي والأزرق والجني الأخضر، بينما كانت عربتها تتقدم فوق المطبات والحفر والطرقات غير المستوية التي جعلت أحشاءها تلتف وتضطرب. أو ربما كانت فقط متوترة.

أخبرت نفسها أنه لا داعي للقلق. في وقت سابق، عندما احترقت الندوب على معصمها، خافت أن ترى جاكس الليلة. لكن نظراً لأن العشاء كان حصريًا للغاية، بدت فرصة حضور أحد الأقدار ضئيلة. وإن كان جاكس في هذه المنطقة من الشمال، لم تكن إيفانجلين متأكدة من أنه سيرغب في الحضور. معظم الفتيات سيكنّ هناك من أجل فرصة لقاء الأمير أبولو، وإن كانت الأقدار غيورة كما تقول الحكايات، فلا يمكنها تخيل أن جاكس سيرضى بذلك.

كلا، طمأنت نفسها. جاكس لن يكون هناك. الأمير الوحيد الذي ستراه الليلة هو الأمير أبولو.

تقلّب معدتها مجددًا عندما توقفت العربة أخيرًا. لم تتحرك فرانجيليكا للمغادرة، لكنها قالت بابتسامة مرحة “حظًا سعيدًا! ولا تقتطفي أية ورقة!”

قالت إيفانجلين “لم أكن لأحلم بذلك”، فقط لأنه بدا الرد المناسب، ثم نزلت إلى الليل الملامس للصقيع.

كانت تتوقع أن تصل إلى قلعة مكللة بالثلج أو إلى قصر من حكايات القصص، لكنها وجدت فقط غابة من الأشجار النحيلة تتقاطر بالجليد، وقوسًا مصنوعًا من نفس الجرانيت الأزرق المرقط الذي شكّل بوابة الشمال الكبرى.

لم يكن هذا القوس ضخمًا كما ذاك، لكن المشاعل على جانبيه أضاءت نقوشًا كانت متقنة بنفس القدر، بل وأكثر ترحيبًا. رأت إيفانجلين رموزًا من حكايات الشمال وأغانيه الكثيرة: مفاتيح على شكل نجوم وكتب مكسورة، فرسان يرتدون دروعًا، رأس ذئب متوّج، خيول مجنحة، قطع من قلاع، سهام وثعالب، وكروم متشابكة من زنابق المهرّج.

ذكّرها ذلك قليلًا بتطريز والدتها. كانت دائمًا تخيط صورًا غريبة مثل الثعالب وفتحات المفاتيح على الفساتين. تمنت إيفانجلين لو أن والدتها كانت هنا الآن، وأن ما سيحدث لاحقًا سيجعلها فخورة بها.

“هل ستقفين هنا حتى تتجمدي، أم ستدخلين؟” قال صوت دخاني.

في البداية، ظنت إيفانجلين أن الصوت جاء من القوس. ثم رأته.

كان الشاب واقفًا إلى جوار القوس كما لو كان شجرة في غابة، وكأنه كان هناك دائمًا. لم يرتدِ عباءة أو رداء، فقط درعًا جلديًا متعرجًا وخوذة برونزية غريبة. بدا الجزء العلوي منها كالتاج، سميكًا ومزخرفًا برموز غريبة تحيط بجبهته. تركت الخوذة معظم شعره البني المتموج مكشوفًا لكنها غطّت جزءًا كبيرًا من وجهه بقوس معدني حاد ومسنن امتد من جانبي رأسه إلى جسر أنفه، كاشفًا فقط عينيه ووجنتيه الحادتين.

تراجعت خطوة إلى الوراء بغريزة.

ضحك الجندي، بصوت ناعم على نحو غير متوقع. “أنتِ لستِ في خطر مني، أيتها الأميرة.”

“لستُ أميرة”، صحّحت له.

“لكن ربما ستكونين كذلك.” غمز، ثم اختفى عن نظرها عندما عبرت من خلال القوس وسمعت صوتًا يهمس، نحن سعداء لأنكِ وجدْتنا.

خطوة أخرى، وتحوّل العالم من حولها.

دفء لفّ بشرتها كأشعة شمس بعد الظهيرة. بقيت إيفانجلين في الخارج، لكن الضباب والبخار والبرد قد اختفوا. كل شيء هنا كان مغمورًا بألوان البرونز والأحمر والبرتقالي—ألوان الأوراق عند بداية تحولها.

كانت في فسحة أخرى داخل الغابة، لكن هذه كانت معدّة لحفل، مع موسيقيين يعزفون العيدان والقيثارات، وأشجار تتدلى منها أشرطة احتفالية. وفي قلب كل ذلك، كانت هناك شجرة عنقاء ملكية، وتبيّن لها فجأة معنى تحذير فرانجيليكا الغامض.

كانت هذه المرة الأولى التي ترى فيها إيفانجلين مثل هذه الشجرة، لكنها كانت تعرف عنها من والدتها. تستغرق شجرة العنقاء أكثر من ألف عام لتنضج، حيث تمتد فروعها، وتثخن جذوعها، وتتحول أوراقها إلى ذهب حقيقي. كانت تتلألأ ككنز تنين تحت ضوء الشموع، مغرية الناس بقطفها. ولكن، وفقًا للأسطورة، إذا اقتُطف ورقة ذهبية واحدة قبل أن تتحول جميعها، فإن الشجرة كلها ستشتعل نارًا.

يتجول حول الشجرة أشخاص يبدون مهمين للغاية. إن كان رجال الأرصفة قد بدوا كأن بإمكانهم إسقاط شجرة بضربة فأس، فهؤلاء يبدون كمن يستطيع إنهاء حياة بكلمة مختارة أو ضربة قلم. كان معظم الرجال يرتدون سترات مخملية أنيقة تتناسب مع الديكور الدافئ، بينما ارتدت السيدات مجموعة متنوعة من الفساتين. كانت الغالبية ترتدي موضة الشمال: تنورات خارجية من بروكاد ثقيل، أحزمة مرصعة بالجواهر، وأكمام مشقوقة درامية تتدلى إلى ما بعد أطراف أصابعهن.


لحسن الحظ، لم ترَ إيفانجلين أمير القلوب بينهم. لم يكن هناك أي شاب يحمل تفاحة، أو ملامح قاسية، أو ملابس ممزقة.

تنفّست الصعداء قليلاً، وحوّلت انتباهها للبحث عن الأمير أبولو بين الضيوف الذين كانوا يحتسون من كؤوس بلورية وكأن حضور مناسبات يختار فيها الأمير عروسه أمرٌ شائع مثل وجبة فطور عائلية. ولخيبة أملها، لم يكن أحدٌ منهم يرتدي تاجًا، مما جعلها تفترض أن الأمير لم يصل بعد.

كانت لتسأل أحد الموجودين عنه، لكن، رغم ما بدا من ارتياح على الجميع، لم يشملها أحد في أحاديثه. الدوائر كانت تنغلق، والأفواه تسكت كلما اقتربت منهم.

جعلها ذلك تشعر بخجل غير معتاد، وسعادة داخلية لأن ماريسول لم تأتي. كانت الأخيرة على الأرجح ستظن أن الناس يتجاهلونها بسبب لعنتها.

بعض الأشخاص رمقوا إيفانجلين بنظرات خاطفة، ربما يتساءلون إن كان شعرها بلون الذهب الوردي يعني أنها الفتاة التي تحدثت عنها الصحف الفضائحية. لكن، من الواضح، لم يكن ذلك كافيًا لتدخل إلى أي من الدوائر.

الفتاة الوحيدة الأخرى التي بدا أنها تتعرض للتجاهل المقصود كانت فتاة أخرى في مثل عمر إيفانجلين تقريبًا، ترتدي فستانًا ملفتًا بلون الياقوت المحترق يشبه حراشف التنين. لم يتحدث إليها أحد، لكن من المستحيل ألا يلاحظها أحد. كانت على الأرجح أجمل فتاة في الحفل، وكان فستانها الأكثر جرأة على الإطلاق. لم يكن به أكمام طويلة على الطراز الشمالي، بل لم تكن فيه أكمام على الإطلاق—ليظهر مساحات واسعة من بشرتها البنية الناعمة، وكتفيها الموشومتين برسومات نيران تنين تغطي ذراعيها كقفازات حبر نابضة بالحياة.

التقطت إيفانجلين كأسين بلوريين وتقدّمت نحو الفتاة، التي كانت تتمايل كما لو كانت ترقص مع نفسها.

“هل ترغبين بإحداهما؟” مدت إيفانجلين إحدى الكأسين نحوها.

نظرت الفتاة إلى الكأس، ثم إلى إيفانجلين بعينين ضيقتين.

“لا تقلقي، ليست مسمومة.” شربت إيفانجلين من كلا الكأسين ثم عرضت إحداهما مرة أخرى. “أرأيت؟”

“إلا إذا كانت إحداهما مسمومة، والأخرى فيها الترياق. هذا ما كنت لأفعله أنا.” ارتسمت على وجه الفتاة ابتسامة شريرة على نحو مفاجئ، وأحسّت إيفانجلين لوهلة أن هناك سببًا وراء تجاهل الآخرين لها. ربما لم تكن فتاة بريئة على الإطلاق. أو ربما كانت إيفانجلين لا تزال متأثرة بتحذير ماريسول السابق بشأن المخالب والأنـياب التي ستظهر.

“أنا إيفانجلين، بالمناسبة.”

“أعرف.” تمتمت الفتاة.

توقعت إيفانجلين أن تعرّفها بنفسها حينها، لكن الفتاة الأخرى قالت فقط “عرفتُكِ من شعرك الوردي. ولاحظتُ أيضًا أنك كنتِ تبحثين عن الأمير عندما دخلتِ، لكن نظركِ لم يكن مرتفعًا بما يكفي.” وأشارت بالكأس نحو شجرة العنقاء الملكية.

لم تفهم إيفانجلين كيف أنها لم تره من قبل هناك. الآن بعدما عرفت ما تبحث عنه، أصبح من المستحيل ألا تلاحظ أبولو ووضعه المفاجئ. كان عاليًا فوق الشجرة، على شرفة خشبية، يتكئ بجرأة جانبًا على الدرابزين.

كان صورة لأمير ساحر، يرتدي درجات من الأحمر الخمري والبني الخشبي، وتاجًا ذهبيًا على شكل فروع قرون ملتفة. ومن هذه المسافة، لم تستطع رؤية ملامحه بوضوح، لكنه كان مستلقيًا على الدرابزين ينظر إلى الحفل بأسلوب فيه تركيز شديد، وكأنه يبحث بيأس عن حب حياته. بدا وكأنه يتخذ وضعية رسم لوحة. لا—

كان يتخذ وضعية رسم لوحة بالفعل!

رأت إيفانجلين شرفة أخرى مخفية في الأشجار على الجانب الآخر من الفسحة. كان هناك رسّام يبدو أنه يلتقط وضعية الأمير الدرامية بضربات فرشاة محمومة.

“عليكِ أن تري أبولو عندما يكون الجو أكثر دفئًا”، تمتمت الفتاة بجانبها. “دائمًا ما يتخذ هذه الوضعيات بدون قميصه.”

“هل يفعل هذا كثيرًا؟”

أومأت الأخرى بحماس. “كان الأمر أكثر إثارة عندما كان شقيقه الأصغر، تيبريوس، يسخر منه بإطلاق السهام أو إطلاق قطعان من القطط عليه.”

“أعتقد أنني كنت سأستمتع برؤية ذلك.”

“كان ذلك رائعًا. للأسف، لا يبدو أن تيبريوس هنا.” تنهدت الفتاة الأخرى. “حدث خلاف مؤقت بين الأميرين قبل بضعة أشهر. اختفى تيبريوس لأسابيع، ولا أحد يعرف أين ذهب، ومنذ عودته، وهو يتجنب معظم المناسبات.”

“ما—” شعرت إيفانجلين بومضة من البرد تسري في مؤخرة عنقها، جعلتها تنسى تمامًا ما كانت ستقوله بعد ذلك، ولا تفكر إلا في اسم واحد: جاكس.

لم تكن تعرف كيف عرفت أن تلك الومضة من البرد تعني ذلك، لكنها كانت لتراهن بحياتها أن أمير القلوب قد دخل الحفل الآن.


الفصل الحادي عشر

 

على مدار أربعة عشر يومًا، لم يكن هناك سوى أمواج داكنة، وزَبَد رمادي، ورذاذ ملحي لاذع. ثم، وكأنها انتُزِعت من إحدى حكايات والدتها قبل النوم، رأت إيفانجلين المنحنيات المغطاة بالثلج لقوس البوابة العظيمة المؤدي إلى الشمال البديع.

صُنع القوس من الجرانيت المخطط بعروق زرقاء رخامية، وكان بارتفاع يعادل برج قلعة. أما أعمدته المتآكلة فكانت منقوشة لتبدو وكأنها حوريات بحر يحملن رماحًا تخترق منحوتات رجال، تمامًا كما يطعن البحّار سمكة برمحه. كانت ظهور الرجال منحنية، وأذرعهم ممدودة لحمل اللافتة التي تُشكّل قمة القوس الضخم:

مرحبًا بكم في الشمال البديع
هنا تبدأ القصص

قالت ماريسول “إنه أكبر مما تخيلت.”
كان شعرها البني الفاتح يلمع، ووجهها الرقيق يفيض بلون صحي. لقد كانت الأسابيع في البحر مفيدة لها. في الأيام الأولى من الرحلة، كانت خائفة جدًا من مغادرة مقصورتها، لكن مع مرور كل يوم، بدأت تتجول أكثر، واليوم كانت تقف بجانب إيفانجلين عند الدرابزين.

همست “هل هذا هو المكان الذي علينا أن نلتزم فيه الصمت؟”

أومأت إيفانجلين مبتسمة، سعيدة لأن أختها غير الشقيقة بدأت تصدق حكاياتها عن الشمال، تمامًا كما كانت تؤمن بها هي. وخلال الرحلة، لم تتفاجأ عندما اكتشفت أن أغنيس لم تكن تروي لماريسول أي قصص أثناء طفولتها، لذا، قررت إيفانجلين أن تشاركها بعضًا من حكايات والدتها، بما في ذلك تحذيراتها بشأن دخول الشمال:

“لا تنطقي بكلمة وأنت تعبرين من خلال قوس البوابة. فالسحر القديم للشمال لا يمكنه عبور الحدود، لكنه دائمًا يحاول. إنه يتجمع حول القوس، وإذا تكلمتِ أثناء العبور، فإنه يسرق صوتك ويستخدم كلماتك ليغوي بها مسافرين آخرين لمساعدته على الهرب إلى باقي أنحاء العالم.”

ربما كانت هذه الأسطورة معروفة على نطاق واسع، أو أن الجميع شعر بنفس الهيبة التي شعرت بها إيفانجلين، لأن السفينة بأكملها مرت تحت القوس في صمت مطبق.

وعلى الجانب الآخر، كان الهواء باردًا كالثلج، مملوءًا بغيوم منخفضة لدرجة أن إيفانجلين استطاعت تذوقها.

تمتم أحد البحارة وهو يتذمر “ليتنا نبحر بسرعة أكبر. هذا الجزء يُرعبني دائمًا.”

توقفت الأمواج عن التلاطم، وانسحبت الغيوم القريبة لتحجب الشمس، مغطية السفينة بظل ثقيل بينما شقّت طريقها بهدوء عبر ممر البحر المعروف باسم صفّ الشجاعة، مقبرة أول عائلة ملكية في الشمال.

كانت آثار عائلة فالور القديمة تمامًا كما وصفتها والدتها. تماثيل تقف حتى رُكبها في المياه الزرقاء الرمادية، بطول يكاد يضاهي القوس، منقوشة بعناية لتبدو مرتدية دروعًا أو ملابس فاخرة—عدا رؤوسها، التي كانت مفقودة جميعها. ومع ذلك، وبينما مرت السفينة، شعرت إيفانجلين بأنها تسمع أصواتهم، أو ربما كانت أصواتًا مسروقة من أولئك الذين مرّوا عبر القوس من قبل.

“حرّرونا،” همسوا بصوت أجش.
“أعيدونا.”
“ساعدونا.”
“نحن نستطيع…”

لكن إيفانجلين لم تسمع نهاية النداء، إذ وصلت السفينة إلى أرصفة فالورفِل، وبدأ الجميع بالاستعداد للنزول.

نادتها امرأة ذات شعر فضي، ترتدي قميص بلون أزرق وتنورة فضية،
 وحزامًا يحمل لفائف مربوطة
“الآنسة فوكس؟ الآنسة تورمالين؟ أنا فرانجيليكا. سأرافقكما إلى مكان الإقامة،
وسأتأكد من وصول الآنسة فوكس إلى عشاء هذا المساء.”

كان ابتسامة فرانجيليكا دافئًا، وإشارتها سريعة وهي تحث الفتاتين على مغادرة السفينة. لكن إيفانجلين لم تستطع أن تُسرع، بينما كانت تخطو على الرصيف المبتل المليء ببائعي السمك والأكشاك التجارية وبراميل المحار.

لطالما أحبت العيش في الجنوب. أحبت حرارة الشمس والألوان الزاهية التي يرتديها الناس. لكن الآن، بدت شوارع فاليندا اللامعة مفرطة البهرجة. هنا، كان كل شيء مغطى بطبقة ضبابية من الغموض. درجات رمادية ضبابية، زُرقة ممطرة، وأرجوان عميق بلون البرقوق الطازج.

كان الرجال الضخام في الأرصفة يبدون كأنهم قادرون على دخول الغابة وقطع شجرة بضربة فأس واحدة. يرتدون أحذية جلدية ثقيلة مزينة بأبازيم معدنية، بينما ترتدي النساء فساتين صوفية سميكة بأحزمة مشابهة لحزام فرانجيليكا، تحمل زجاجات علاج، وأقواسًا صغيرة بحجم راحة اليد.

مجرد استنشاق هذا الهواء البارد النقي جعل إيفانجلين تنتصب أكثر وتتنفس بعمق أكبر. ثم—

قالت بانبهار “ماريسول، انظري، تنانين صغيرة!”

شهقت ماريسول، واصفرّ وجهها، مع انبعاث فرقعة قوية، وظهر تنين صغير أسود كالفلفل، بحجم سنجاب، أطلق تيارًا من اللهب الأحمر لشواء قطعة سمك في كشك قريب.

في الأرصفة، بدت هذه المخلوقات الصغيرة الساحرة شائعة تمامًا مثل السناجب. كل بائع تقريبًا كان يملك واحدًا. ماريسول بوضوح لم تكن معجبة بهذه الكائنات المجنحة الصغيرة، لكن إيفانجلين كانت مبتهجة لرؤية تنانين زرقاء صغيرة تجلس على الأكتاف، وأخرى جلدية بنية اللون تتخذ العربات مكانًا لها. كانت هذه المخلوقات المصغّرة تُحمّص التفاح واللحوم، تنفخ كرات زجاجية، وتُسخن أكواب الشوكولاتة الساخنة.

كان كل شيء ساحرًا تمامًا كما وصفت والدتها.

اضطرت إيفانجلين إلى النظر لأسفل نحو الأحجار الرطبة لتتأكد من أن قدميها لا تزالان على الأرض ولم تطِر، لأن قلبها كان يطير فرحًا. دخول الشمال لم يكن مجرد بداية لشيء جديد، بل بدا وكأنه بداية كل شيء.

خلف الأرصفة، ارتفعت أبراج المتاجر الخشبية بدلًا من أن تمتد عرضيًا. كل طابق منها يحمل واجهات متجرية تقليدية ساحرة، موصولة بجسور مشاة يكسوها الضباب، متقاطعة فوق رأس إيفانجلين في نمط متاهة مدهش. الشمال جعلها تفكر في والدتها بالطبع، ولكن بشعور من الألم، أدركت أنه كان أيضًا مكانًا كانت تتمنى استكشافه مع والدها. المتاجر القليلة التي تمكنت من رؤية داخلها بدت تمامًا كنوع الأماكن التي كان والدها سيعثر فيها على غرائب جديدة لمتجره.

صرخت فتاة تحمل حقيبة مليئة بالصحف الملفوفة
“احصل على إشاعة اليوم! مثالية إذا كنت تراهن على من سيخطبها الأمير — أو إذا كنت تريد معرفة منافساتك!”

قالت ماريسول، وهي تحدق في الصحف بفضول “يجب أن نشتري واحدة.”
ونظرًا لعدم حب ماريسول لصحف الفضائح، لم تكن هذه الاستجابة متوقعة. لكنه كان تمامًا نوع المغامرة الذي كانت إيفانجلين تأمل أن توقظه هذه الرحلة فيها.

مدّت إيفانجلين يدها إلى كيس النقود. العملة كانت مختلفة، لكن الإمبراطورة زودتها بسخاء بنقود شمالية.
“بكم؟”

قالت الفتاة “نصف مارك فقط. انتظري—”
قفز حاجباها وهي تحدق بإيفانجلين عن قرب.
“إنها أنتِ! وشعرك الوردي حقيقي!”
دفعت الصحيفة في يد إيفانجلين وهي تغمز لها

“إنه على حسابي. لقد راهنتُ على أن الأمير أبولو سيختاركِ أنتِ من بين الأخريات.”

لم تعرف إيفانجلين كيف ترد، سوى الإصرار على أن تدفع للفتاة ضعف ثمن الصحيفة.

___________________________

إشاعة اليوم

لْنبدأ بالمراهنات
بقلم كريستوف نايتلنجر

غدًا هو الليلة الأولى من احتفال مهرجان ليلة لا تنتهي . وقد بدأ القصر الآن في استقبال الرهانات على كل شيء، من الشريكات في الرقص إلى عروض الزواج، وكما وعدتكم، لديّ توقعاتي!

جميعنا يعلم أن الأمير أبولو صرّح بأنه قد لا يختار عروسًا، وأنه إذا بدأ احتفال ليلة لا تنتهي، فقد لا ينتهي أبدًا. لكنني لا أنصح بالمراهنة على هذا الاحتمال. لديّ من مصدر موثوق أن الأمير أبولو يضع عينيه على عدة سيدات، ولديّ بعض النظريات الممتازة حول من قد تكنّ هؤلاء الفتيات.

مرشحتي الأولى هي ثيسالي فورتونا، والتي لا تحتاج إلى تعريف. وبما أنها من إحدى العائلات العريقة الكبرى، فلن أتفاجأ إن كانت ثيسالي هي أول من يختارها الأمير أبولو للرقص معه غدًا في الليلة الافتتاحية.

ومع ذلك، إذا كان أميرنا يسعى لكسب ودّ أولئك منا الذين لا ينتمون إلى أنساب نبيلة، فقد يختار الراقصة أرييل لالاجريماس لتكون شريكته الأولى في الرقص. عائلة لالا يكتنفها الغموض، وهو ما يكون غالبًا رمزًا للأصل المتواضع، لكن جمالها يكاد يكون أسطوريًّا. ونحن جميعًا نعلم كم يُقدّر الأمير أبولو الجمال.

لكن، للأسف، لست متأكدًا إن كنت سأراهن على زواجه من لالا. فقد سمعت مرارًا أن الأمير أبولو قد يكون واقعًا بالفعل في حب الأميرة الشهيرة سيرينديبيتي سكايستيد من جزر آيسهافن. لقد عرفا بعضهما البعض منذ الطفولة.

كانت ترسل رسائل أسبوعية إلى القصر، كشف مصدر سري.

إذا كنت تراهن على من سيطلب الأمير الزواج منها، فقد تكون الأميرة سيرينديبيتي هي الرهان الأكثر أمانًا.

ومع ذلك، إن كنت تميل إلى المخاطرة كما أفعل أنا، فقد ترغب في وضع أموالك على أجنبية أخرى—إيفانجلين فوكس من إمبراطورية ميريديان. يتيمة، لُعنت من قِبل الأقدار الخالدة، وهي الآن مُدلّلة الإمبراطورة الجديدة في ميريديان. القصص التي تُروى عن إيفانجلين تشبه كثيرًا حكاياتنا الملعونة—من الصعب تصديق أنها حقيقية بالكامل.

ابنة عمي من الجنوب أخبرتني أن لإيفانجلين شعرًا ورديًا ذهبيًا لامعًا، وروحًا جريئة ومغامِرة تليق به. وقد رفضت ذات مرة صفًا طويلًا من الخطّاب يمتد كشارع المدينة فقط لتظل يدها متاحة في حال رغب الأمير أبولو في أن يطلبها—وأعتقد أنني قد أراهن على أنه سيفعل.


____________________________________

ابتسمت إيفانجلين للصحيفة التي أمامها، ونسيت لوك قليلاً أكثر من ذي قبل. كانت تحاول ألّا تدع آمالها تحلّق عاليًا جدًا. فحتى عندما كانت تتحدث مع ماريسول عن ليلة لا تنتهي، لم يكن الأمر يدور فقط حول الأمير. كانتا تتحدثان عن الرقص والموضة ونوع الأشخاص الذين قد تلتقيان بهم.
لكن إيفانجلين اضطرت للاعتراف أنها كانت تريد حقًا أن تصدّق بأنها تملك فرصة للفوز بعاطفة الأمير أبولو. كانت تعلم أن تخيّل الزواج بشخص لم تلتقه بعد ليس بالأمر العملي، لكنها لم تكن تعتقد أيضًا أنه غير عملي بالكامل.

كان لوالديها قصة حب خرافية علّمتها أن تؤمن بأشياء مثل الحب من النظرة الأولى.

وكانت القصة تختلف قليلاً في كل مرة يروؤنها فيها، وكأنها إحدى حكايات والدتها الشمالية. كانت دائمًا تبدأ حين كان والدها يبحث عن النوادر في الشمال، فصادف بئرًا يخرج منها لحن ساحر. ظنّ أن البئر مسحوره، فحاول الحديث معها. وقد أجابته—أو بالأحرى والدتها هي من ردّت. كانت قد سمعت صوته يخرج من بئر عائلتها، وأحبّت فكرة إقناع هذا الغريب الجنوبي بأنها جنية ماء سحرية.
وفي بعض الروايات، لعبت به لأسابيع. وفي روايات أخرى، كان والد إيفانجلين يعلم منذ البداية أنها مجرد فتاة تلعب دورًا. لكن في جميع القصص، كانا يقعان في الحب.

كان والدها يقول دائمًا
“الحب من أول صوت.”
فتقبّله أمها على خده وتقول
“بالنسبة لي، كان فقط… الحب من أول نظرة.”

وكان والدها ووالدتها يحرصان دائمًا على إخبار إيفانجلين بأن ليس كل أنواع الحب تحدث من النظرة الأولى؛ فبعضها يحتاج وقتًا لينمو مثل البذور، أو كالبصيلات، تبقى خامدة حتى يحين موسمها.
لكن إيفانجلين لطالما أرادت الحب من أول نظرة—أرادت حبًا يشبه حب والديها، حبًا كقصة خيالية.
ونظرة واحدة على هذه الصحيفة جعلتها تصدق أكثر بقليل بأنها قد تجده هنا، في ليلة لا تنتهي.

“كل هذا حماسي للغاية!” صاحت ماريسول بسعادة نقية، لكن بعد لحظة، مرت على وجهها ظلّ غريب أربك إيفانجلين.
“رغم أنهم قالوا إنك خيار محفوف بالمخاطر، عليكِ أن تكوني حذرة الليلة مع باقي الفتيات. الآن سيظهرن بمخالب وأسنان.”

كانت إيفانجلين تعلم أن هذا التأثير بلا شك من سموم أغنيس، لكن كلمات ماريسول آلمتها.
فبمجرد أن نطقت كلمة أسنان، بدأت الندوب القلبية على معصم إيفانجلين تحترق.
أصبحت تشعر بها أكثر فأكثر منذ أن قررت التوجّه إلى الشمال. عادةً، كانت تتجاهل ذلك الألم اللاسع والأفكار المرتبطة بـ جاكس.
لكن في تلك اللحظة، لم تستطع أن تطرد الفكرة المزعجة من عقلها أن من ينبغي أن تقلق منه الليلة ليس الفتيات الأخريات، بل القدر ذو العينين الزرقاوين الذي ترك علاماته عليها.

لم يكن مهرجان ليلة لا تنتهي قد بدأت رسميًا بعد، لكن هذا المساء سيُعقد عشاء خاص للترحيب بجميع السفراء الأجانب.
وعلى عكس الحفل الرسمي الذي سيرقص فيه الأمير مع خمس فتيات فقط، هذا المساء سيقابل الجميع، بما فيهم إيفانجلين.

“يا آنساتي!” صاحت فرانجيليكا وهي تصفق.
“لن يهم كل هذا إن لم تصل الآنسة فوكس إلى عشاءها في الوقت المناسب.”
ولوّحت لهن نحو العربة التي كانت تنتظرهما.

تضاءل الإحساس بالحرق في معصم إيفانجلين، لكنه لم يختفِ تمامًا، بينما كانت العربة تهتزّ فوق طريق رمادي غير ممهد، تصطفّ على جانبيه نُزل وحانات تحمل أسماء حكايات شمالية وشخصيات تاريخية.
مرّوا بمنزل عرافة يدعى همسات ڤيسبر، وحدادة تُدعى أسلحة وولفريك.
ويبدو أن الأمير الأبدي كان حانة شهيرة، رغم أن إيفانجلين كانت أكثر فضولًا تجاه صفّ الناس المتعرج أمام مياه فورتونا ذات النكهات العجيبة.
لم تتعرف على الاسم من حكايات والدتها، لكنها تساءلت إن كانت لتلك المنشأة صلة بفتاة فورتونا التي ذُكرت في صحيفة الشائعات كمرشحة مفضلة.

وأخيرًا توقفت العربة عند نهاية الطريق البهيج، أمام نزل حورية البحر واللآلئ نُزل للمسافرين المغامرين.
ويُشاع أن هذا النزل بُني من حطام سفينة غارقة، وكان مليئًا بأرضيات تصدر صريرًا ودفء عابق أذاب البرودة عن بشرة إيفانجلين المتجمدة.

كانت الجدران مغطاة بأوراق ذات لون بُني فاتح، مرسوم عليها بحارة مذهولون وحوريات بحر شريرات. واستمر هذا الطابع في جناح إيفانجلين وماريسول، حيث كانت إطارات الأسرة تشبه صناديق كنوز خشبية مفتوحة، وعواميد الأسرّة مكوّنة من أكبر اللآلئ البيضاء التي رأتها إيفانجلين في حياتها.

ووفقًا لوالدتها، فإن حكاية الحورية واللآلئ تحكي عن حورية بحر كانت تخدع البحارة لإقناعهم بأن يحوّلوها إلى لآلئ عملاقة.
وكانت من القصص التي تبدو خيالية أكثر من كونها حقيقية.
لكن، يمكن أن تكون القصة حقيقية فعلًا، تجنّبت إيفانجلين لمس أعمدة اللؤلؤ أثناء ارتدائها ثوبها للمساء.

لقد حاولت أن تحصل على دعوة لماريسول، لكن عشاء الليلة كان حصريًا للغاية.

كان من المفترض أن يرتدي الحاضرون أزياء تعكس شيئًا عن أنفسهم أو عن الممالك التي جاؤوا منها، وثوب إيفانجلين الذي أرسلته الإمبراطورة كان يُعبّر عنها بوضوح .
وبدلًا من الأكمام، كانت هناك خيوط رفيعة من الفضة تلتف حول ذراعيها ومنطقة الصدر، ثم تنساب إلى الأسفل، فوق صدّها الأبيض الثلجي وتنورتها الضيقة البيضاء، كأنها عروق من حجر الرخام المعرق.

بدت كتمثال عاد إلى الحياة.
شحب وجه ماريسول.

“أعتقد أنه من الجيد أنني لم أُدعَ لهذا العشاء. لو منحوني ثوبًا يرمز إلى حياتي، لكان مطرّزًا بجمجمة وعظمتين متقاطعتين على الصدر.”
قالت ماريسول ذلك وكأنه مزاح، لكن صوتها كان عاليًا أكثر من اللازم، وخشنًا أكثر من المعتاد.

وهكذا، عاد الشعور بالذنب إلى قلب إيفانجلين.

“الأمور ستكون مختلفة هنا.”
قالتها إيفانجلين وهي تمسك يد أختها غير الشقيقة وتضغط عليها برقة.
مرة أخرى، شعرت برغبة شديدة في الاعتراف بالحقيقة وإخبار ماريسول أن لعنتها المزعومة كانت في الأصل خطأ إيفانجلين.

“الآنسة فوكس!”
نادتها فرانجيليكا من خلف الباب.
“لقد حان وقت المغادرة، عزيزتي.”

أغلقت إيفانجلين فمها وابتلعت أسرارها.
الاعتراف ربما كان سيخفف من شعورها بالذنب، لكنه سيُفسد أشياء كثيرة أخرى، ليس لها وحدها.
لو أخبرت ماريسول بالحقيقة، قد لا تشعر بأنها ملعونة بعد الآن، لكنها بالتأكيد كانت ستشعر بأنها خُدعت.

في الوقت الحالي، كان عليها أن تأمل فقط أن الأمور ستكون حقًا مختلفة هنا—وأن في الشمال ما يكفي من السحر لصنع نهايات سعيدة لكليهما.


 

الفصل العاشر

عندما عاشت إيفانجلين فوكس كتمثال حجري، أصبحت حياتها راكدة. ساكنة كبركة منسية، لم تمسّها قطرة مطر، ولا حصاة، ولا حتى الزمن. لم تكن تتحرّك. لم تكن تتغيّر. لكنها كانت تشعر. كانت تشعر بالكثير، بالكثير جدًا. وحدة ممزوجة بلمحات من الندم، أو أمل مصبوغ بنفاد الصبر. لم يكن هناك شعور نقي واحد أبدًا. بل كان دائمًا شيئًا شيء آخر. تمامًا مثل اليوم.

توقّفت الندوب على معصم إيفانجلين عن الاحتراق. لم تعد تشعر وكأن جاكس قد عضّها للتو. لكن داخلها كان لا يزال يعجّ بالفراشات المتطايرة وهي تصل إلى الباب الجميل المؤدي إلى غرفة ماريسول. الباب الأبيض ذو النافذة العلوية كان في يوم من الأيام غرفة إيفانجلين.

كانت إيفانجلين تعرف أن ماريسول لم تسرق الغرفة؛ لقد انتقلت إليها بناءً على طلب زوجة أبيها حين كانت إيفانجلين متحجرة. وحالما عادت، حاولت ماريسول أن تعيد الغرفة لها، لكن إيفانجلين شعرت بالذنب آنذاك، وسمحت لها بالاحتفاظ بها. لا تزال تشعر بالذنب، ولكن هذه المرة كان ذنبًا من نوع مختلف—ذنبٌ لأنها لا تستطيع أن تجبر نفسها على طرق الباب الذي كان يومًا ما لها، ودعوة ماريسول للذهاب إلى الشمال.

استمرّت أفكارها تدور لوك أيضًا كان يومًا ما لها.
ورغم أنها كانت الآن أكثر تصميماً من أي وقت مضى على أن تنسى لوك،
ربما لم تتخلَّ تمامًا عن فكرة أن ماريسول ولوك بينهما شيء.
كانت واحدة من تلك الأفكار التي كانت تحاول ألا تفكر بها.
لم تكن تعتقد أن ماريسول كانت تعرف أن إيفانجلين أحبت لوك—
ماريسول كانت دائمًا طيبة وخجولة، لم تبدُ قادرة على سرقة كتاب، فكيف بشخص؟
لكن من الصعب ألا تتساءل…

ماذا لو كانت ماريسول تعرف أن إيفانجلين تحب لوك؟
ماذا لو كانت قد سرقته عن علم؟
وماذا لو وجدت إيفانجلين الحب مرة أخرى في الشمال، وسرقتْه ماريسول من جديد؟

تردّدت يد إيفانجلين في الهواء، بين أن تطرق الباب أو أن تخفضها.
وحينها…

“أمي، من فضلكِ—”
لم تكن كلمات ماريسول مرتفعة، لكن الممر الضيق كان هادئًا لدرجة أن إيفانجلين استطاعت سماعها من خلف الباب.
“لا تقولي ذلك.”

“بل هو الحقيقة، صغيرتي.”
كان صوت أغنيس كالعسل المعسول—حلو جدًا لدرجة تجعله لا يُحتمل.
“لقد أهملتِ نفسكِ في الأشهر الماضية. انظري إلى نفسك. بشرتك، شعرك، جلستكِ كأنكِ شريط مبتلّ، وتلك الهالات تحت عينيك فظيعة. قد يتغاضى الرجل عن سمعتكِ الملعونة لو كنتِ جذابة، لكنني بالكاد أتحمّل النظر إليك—”

فتحت إيفانجلين الباب، غير قادرة على تحمّل كلمة قاسية أخرى.

كانت ماريسول المسكينة جالسة على سريرها الزهري الشاحب، وكانت حقًا تبدو كأنها شريط ذابل،
لكن السبب كان بلا شك أن أغنيس قد سحقتها تحت أقدامها.
فمهما كانت ماريسول أو لم تكن،
فهي أيضًا ضحية من ضحايا أغنيس.
لكن بخلاف إيفانجلين، ماريسول عاشت مع هذه المرأة الرهيبة طوال حياتها.

صرخت أغنيس “ألديكِ أي ذرة من الأدب؟”

كانت إيفانجلين تودّ بشدة أن تقول إن أغنيس هي من تفتقر إلى الأدب واللطف، بالإضافة إلى أمور أخرى كثيرة.
لكن إثارتها للغضب أكثر لم تكن فكرة حكيمة الآن.

فأجبرت نفسها على أن تقول
“أنا آسفة. لدي خبر اعتقدت أنكما سترغبان في سماعه فورًا.”

ضيّقت أغنيس عينيها بشك.

وماريسول مسحت عينيها خلسة.

وشعرت إيفانجلين بقدر أكبر من اليقين أن الذهاب إلى الشمال من أجل مهرجان الليلة التي لا تنتهي، هو بالضبط ما تحتاجه هي وماريسول معًا.
وربما كانت ماريسول تحتاجه أكثر.
لم تصدق أنها فكرت بعدم دعوتها.
ومع رؤيتها الآن، لم تستطع إيفانجلين تخيّل أن ماريسول يمكن أن تفكر بسرقة لوك منها،
وحتى لو فعلت، أليس من كان يجب أن تُلقي عليه اللوم هو لوك نفسه؟

قالت أغنيس بحدة
“هيا، ما الأمر يا فتاة؟”

أعلنت إيفانجلين بثقة
“اليوم التقيتُ بالإمبراطورة. ولي عهد الشمال البديع سيُقيم حفلاً راقصًا، والإمبراطورة اختارتني لأكون سفيرة لإمبراطورية الميريديان. تم توفير كل شيء من نقل وإقامة وملابس. سأغادر بعد أسبوع من اليوم، وأرغب في أن ترافقني ماريسول.”

تألّقت ماريسول كأن إيفانجلين قد منحتها باقة من نجوم الأماني.

لكن أغنيس لم تقل كلمة.
كان على وجهها تعبيرٌ شاحب كأنها رأت شبحًا… أو لمحة من قلبها الشرير.
كانت إيفانجلين متأكدة تقريبًا من أنها ستقول لا عندما فتحت فمها المشدود،
لكن بدلاً من ذلك، خرج صوتها حلوًا أكثر من اللازم وهي تصفق وتقول
“يا له من خبر رائع! بالطبع يمكنكما الذهاب، وخذي ماريسول معك.”

الفصل التاسع

 

قرأت إيفانجلين دعوة الإمبراطورة مرة أخرى بينما كانت عربة السماء تهبط على أراضي القصر النظيفة.
 لقد أمضت اليوم الماضي تحاول تخيّل نوع الفرصة التي قد ترغب الإمبراطورة في مناقشتها، لكنها ما زالت تجهل ما هي.
ولم تكن ماريسول تعرف أيضًا. فعندما عادت إيفانجلين إلى المنزل وأخبرت ماريسول بما تحويه الورقة الحمراء،
 كررت أختها غير الشقيقة أنها سعيدة من أجلها، لكنها بدت متوترة كذلك.

وإن كانت دعوة إيفانجلين غامضة، فالإمبراطورة الجديدة كانت أكثر غموضًا.

قبل أن تتحول إيفانجلين إلى حجر، كان وريث العرش شخصًا آخر شاب يُلقّب بـ “وسيم الزمان”. ولسوء الحظ، عرفت أن خلال أسبوع الرعب، عرّفت الأقدار الخالدة عن نفسها علنًا بقتلها لهذا الأمير التعيس. أما الإمبراطورة الجديدة، وشقيقتها الصغرى — التي يُطلق عليها الناس لقب قاتلة الأقدار —فقد حاربتا الأقدار لاستعادة الإمبراطورية، وقتلتا أحدهم، وأثبتتا بذلك أن نظرية إيفانجلين كانت صحيحة: الأقدار ليسوا خالدين بحق. إنهم لا يشيخون، لكن يمكن قتلهم.

معظم المدينة أحبّت الشقيقتين لانتصارهما على الأقدار، لكن البعض كان يعتقد أن الإمبراطورة الجديدة نفسها قد تكون إحدى الأقدار. وذكرت صحف الفضائح أنها تستطيع قراءة العقول، وأن خطيبها قرصان مغطّى بندوب تشبه شبكة عنكبوت.

كانت إيفانجلين أذكى من أن تصدق كل الشائعات. لكنها مع ذلك، كانت قلقة من موضوع قراءة العقول. لم تكن تريد أن ترى الإمبراطورة أفكارها وتكتشف أنها ليست المنقذة التي يظنها الجميع.

لعبت بأزرار كابليتها ذات اللون الكريمي، وقد شعرت بالحرّ فجأة وهي تترجل من عربة السماء وتتبع خادم القصر في ممر مغطّى بالزهور، يؤدي إلى باب بمقبض ذهبي على شكل طائر طنان.

وعندما فتح الخادم الباب، انحنى قائلًا “جلالتك، الآنسة إيفانجلين فوكس وصلت.” ثم تنحّى جانبًا، مرحّبًا بها في حديقة مليئة بأشجار خضراء حالمة، تتدلى منها زهور مرجانية وزهرية ومشمشية اللون، جعلت إيفانجلين تفكر في قبلات ناعمة على الخدود.

“مرحبًا بكِ!”

“من الرائع أن نلتقي بكِ أخيرًا، إيفانجلين!”

“شعركِ حقًا مذهل!”

تحدثت الإمبراطورة وشقيقتها، الأميرة دوناتيلا، في آنٍ واحد، بينما كانت طيور الطنان تحلق فوق رؤوسهن.

“لم نكن نعرف ما تحبين، لذا طلبنا القليل من كل شيء”، أعلنت الأميرة. كانت تربط شَعرها الأشقر بأشرطة زرقاء كلون انفجار الغيوم، ووجهها يعكس مرحًا جميلًا، ما لم يكن يتطابق أبدًا مع صورة المشاغبة الجريئة قاتلة الأقدار التي قرأت عنها إيفانجلين في صحف الفضائح.

“لدينا كريمات توت العلّيق، وأطباق الحصاد، وبودينغ اليقطين، وفطائر الجوز، وكل أنواع الشاي.” وأشارت بيدها نحو برج متعدد الطبقات من أباريق الشاي الملونة التي يتصاعد منها بخار وردي جميل. وإن كانت الشقيقتان الملكيتان تحاولان إبهارها، فقد نجحن بالفعل.

شعرت إيفانجلين وكأنها أميرة بنفسها حين نزعت أخيرًا وشاحها وجلست إلى الطاولة الكريمة.”هذا رائع. شكرًا لدعوتي.”

“سعدنا جدًا بانضمامك إلينا،” قالت الإمبراطورة. كانت شابة – ربما في عمر إيفانجلين تقريبًا – رغم أن من الصعب التأكد، إذ كان هناك خصلة رمادية كثيفة تقطع شَعرها الداكن. كانت ترتدي فستانًا قرمزيًا مكشوف الأكتاف، وقفازات دانتيل جميلة، وابتسامة حلوة جعلت من الصعب على إيفانجلين تصديق أنها كانت قلقة من لقائها. “لطالما تمنينا لقاؤك منذ سمعنا عن بطولتك خلال أسبوع الرعب.”

“لكننا نرغب أيضًا في طلب خدمة،” تدخلت الأميرة.

حدقت الإمبراطورة في شقيقتها، التي خرجت على ما يبدو عن النص المخطط.

“ماذا؟ أنا واثقة أنها تموت فضولًا. أنا فقط أحاول إنقاذ حياتها.” مدت الأميرة يدها عبر طبق شقيقتها والتقطت ورقة كريمية مغطاة بطبعة نحاسية.
________________________


تكريمًا لسمو الأمير ولي العهد أبولو تايتس أكاديان

لقد تم استدعاؤك إلى الشمال البهي

لحضور مهرجان “الليلة التي لا تنتهي”

يبدأ في أول يوم من الشتاء

ولن ينتهي حتى يجد الأمير أبولو عروسه
_____________________


كانت الحبر المعدني يلمع وكأنه لا يزال رطبًا — أو ملامَس بسحر شمالي. حاولت إيفانجلين ألا تقفز إلى استنتاجات، لكنها فشلت على الفور تقريبًا. كانت تأمل بوجود نهاية سعيدة أخرى تنتظرها، وبينما كانت تنظر إلى هذه الدعوة، كان من المستحيل تقريبًا ألا تتخيل أن هذه قد تكون فرصتها للعثور على تلك النهاية.

قالت الإمبراطورة بنعومة “لدى الشمال تقاليد مختلفة عنّا. لا يمكن لولي العهد أن يتوّج رسميًا إلا بعد زواجه، وإقامة حفل لاختيار العروس هو أحد أقدم تقاليدهم.”

وكانت تقليدًا تعرفه إيفانجلين جيدًا، مما بدا وكأنه إشارة أخرى. فقد كانت والدتها قد أخبرتها عن مهرجان الليلة التي لا تنتهي. عندما كانت طفلة، اعتقدت أنه أكثر شيء رومانسي سمعته في حياتها. تُبنى قاعات رقص سرية من أجله في الغابات حيث سقطت النجوم، مما يترك كل شيء مشبعًا بالفتنة. وكانت ليانا فوكس تقول إن هناك أنواعًا خاصة من السحر لا توجد إلا في الشمال، وحتى ذكريات هذا السحر لا يمكن أن تُنقل إلى الجنوب. ثم كانت تحكي لإيفانجلين كيف أن كل ليلة خلال المهرجان، يراقب الأمير التاجي من موقع مخفي، حتى يختار خمس فتيات ليرقص معهن. ليلة بعد ليلة، يتبع نفس الروتين، يراقب، ثم يدعو فتيات للرقص، حتى يجد العروس المثالية.

 “لطالما تمنيت أن يكون المهرجان حقيقيًا. لكنني لم أكن متأكدة أبدًا.”

“هو كذلك، ونريدك أن تذهبي.” ارتشفت الإمبراطورة من الشاي بينما كانت طيور الطنان تنثر بتلات الزهور المشمشية في كوبها. “كنا سنحضر، لكن لا أعتقد أنه من الحكمة مغادرة الإمبراطورية بعد تتويجي مباشرة و—”

“هناك شخص في الشمال أحاول تجنبه،” قاطعتها الأميرة.

“تيلا!” زجرتها الإمبراطورة.

“ماذا؟ إنها الحقيقة.” التفتت الأميرة نحو إيفانجلين. “أنا أعشق الحفلات التي تحتمل نهايات درامية. لكنني قد أتسبب بحادثة دولية – وربما حرب – إن حضرت هذا الاحتفال.”

امتلأ جبين الإمبراطورة بتجاعيد محرَجة.

“لا يمكننا تجاهل الدعوة،” تابعت الإمبراطورة بدبلوماسية أكبر. “وأفضل ألا أبدأ حكمي بإهمال أحد أكثر احتفالات الشمال قدسية. لذا، أنا ومستشاروني فكّرنا كثيرًا فيمن يجب أن يمثل إمبراطورية الميريديان.” التقت عيناها العسليتان بعيني إيفانجلين. “ما فعلتِه خلال أسبوع الرعب كان شجاعًا وغير أناني، وجعلنا نعتقد أنكِ بالضبط النوع الذي نريده كممثلة لنا.” واتسعت ابتسامتها الملكية بينما أومأت شقيقتها تأييدًا.

دفعت إيفانجلين بكريمة توت إلى فمها لإخفاء التوتر المفاجئ في ابتسامتها.

لقد أرادت أن تقول نعم. لطالما تمنت الذهاب إلى الشمال، لاكتشاف العالم الذي نشأت فيه والدتها ومعرفة أي من حكاياتها كان حقيقيًا. كانت تتوق لمعرفة إن كان هناك حقًا عفاريت معجنات تسقط الحلويات في الأعياد، وتنانين صغيرة الحجم تتحول إلى دخان إن حاولت الطيران جنوبًا. وأرادت أن تحضر هذا الحفل. أن تلتقي بالأمير، وترقص طوال الليل، وتنسى لوك أخيرًا.

إن وُجد شيء على الأرض قادر على أن يجعلها تنسى لوك، فهو مهرجان الليلة التي لا تنتهي.

لكن… هل يمكنها أن تقول نعم؟ الإمبراطورة وشقيقتها أرادتا بطلة لتمثيلهن، أردن تلك اليتيمة المنقذة من صحف الفضائح، وإيفانجلين ليست تلك الفتاة. هي نقيضها. فهاتان الأختان حاربتا الأقدار، أما إيفانجلين، فقد أبرمت صفقة مع أحدهم.

جفّ حلقها فجأة. مهما حاولت ألا تفكر في جاكس، كان دومًا في خلفية أفكارها، سر تخشى أن ينكشف يومًا.

ما زالت لا تعرف أين اختفى جاكس. قال لها بويسن إن معظم الأقدار اتجهوا إلى الشمال حيث مُنحوا اللجوء، وكل الشائعات منذ ذلك الحين أكدت ذلك. لم تذكر أي منها تحديدًا أمير القلوب. لكن ألم يحذرها بويسن من أنها ستنجذب إلى جاكس، سواء أرادت أم لا؟ ماذا لو كان هذا ما يدور حوله الأمر حقًا؟ ماذا لو لم تكن هذه فرصة لنهاية سعيدة، بل مجرد قدر يتلاعب بمسارها؟

بعد لقائها الأخير بجاكس – حين كان يحاول مساعدتها فعليًا – تحولت إلى حجر. لا تود أن تتخيل ما قد يحدث إن قابلته مجددًا وقرر تحصيل القبلات الثلاث التي تدين بها له.

أفضل طريقة لحماية نفسها من أمير القلوب هي رفض عرض الذهاب إلى الشمال.

لكن، ماذا بعد؟ في أحسن الأحوال، ستواصل إيفانجلين العمل في المكتبة، وتحبس أنفاسها كلما رنّ الجرس. وقد بدا هذا الآن أقرب إلى الشفقة منه إلى الأمل.

قالت الإمبراطورة “إن كنتِ قلقة من تلك الشائعة البشعة، فقد قمنا بتصحيحها بالفعل.”

“أوه، نعم! لقد كان ذلك ممتعًا جدًا!” مدت الأميرة دوناتيلا يدها، فجلبت طيور طنانة ورقة من صحيفة بالأبيض والأسود إلى إيفانجلين.




____________________
صحيفة الهمسات

إصدار خاص – إعلان
بقلم: كوتلاس نايتلينغر

خبر حصري من مصدر موثوق:
منقذة فاليندا المحبوبة قد شُفيت.
لم يعد لمسها يحوّل الرجال إلى حجر.
________________________


لم يخطر ببال إيفانجلين حتى أن تقلق بشأن هذه الشائعة، لكنها أُعجبت بكون الأختين قد اهتمّتا بها مسبقًا.

قالت الأميرة مؤكدة “لقد نُشرت للتو. وبحلول هذه الليلة، لن يظن أحد أنك ملعونة بعد الآن.”
ثم أضافت مبتسمة “مع أنني أظن أن على الناس أن يعرفوا الآن أنه لا يمكنهم تصديق كل ما يُكتب. يجب أن تري بعض ما كُتب عني بعد أسبوع الرعب.”

اعترفت إيفانجلين وهي تبتسم “ربما قرأتُ بعضها. متجر الكتب الذي أعمل فيه يحتفظ بكل الصحف القديمة.”

سألتها الأميرة بحماس، وقد بدا عليها الفرح أكثر من الخجل، بينما وضعت تارتًا صغيرًا في فمها الذي يشبه شكل القلب
“وماذا ظننتِ بما قرأتِ؟”

ضحكت إيفانجلين دون أن تتمالك نفسها. كانت تحب هاتين الأختين.
“أظن أن السيد نايتلينغر كان مخطئًا تمامًا. أنتِ أكثر شراسة بكثير مما صوّركِ كُتاب الفضائح.”

صفّقت الأميرة بحماس  “كنت أعلم أنكِ ستكونين مثالية! قولي لنا إنكِ ستوافقين! لا يجب عليكِ فعل شيء سوى الذهاب فقط.”

أهدتها الأختان ابتسامتين متطابقتين بينما كانت بتلات الزهور تتساقط من الأعلى، وتدور حولها طيور الطنان.

لو كانتا تعرفان الحقيقة عن اليوم الذي تحوّلت فيه إيفانجلين إلى حجر، لما طلبتا منها أبدًا أن تفعل هذا.
لكن ربما يمكن لإيفانجلين أن تستغل هذه المناسبة لتُصبح أقرب إلى الصورة التي تظنّانها عنها.
قد تكون الدعوة من تدخّل القدر وتلاعبه بمسارها لإعادتها إلى جاكس،
لكن ذلك لا يعني أنها ليست أيضًا فرصتها للعثور على نهاية أكثر سعادة لحكايتها.

كانت تعلم أن الأمر أشبه بأمنية حالمة أن تتخيل أنها إن ذهبت إلى الشمال فستقابل الأمير أبولو وسيقع في حبها ويختارها.
لكنها تربّت على الإيمان بالأماني والقصص الخيالية والأشياء التي تبدو مستحيلة.

وماذا لو لم تكن هذه فرصتها وحدها، بل فرصة لماريسول أيضًا؟
لطالما رغبت إيفانجلين في إيجاد وسيلة لتحسين الأمور لأختها غير الشقيقة،
وربما كانت هذه هي الوسيلة.

لو ذهبت ماريسول معها إلى الشمال، فلن يعرفها أحد هناك بلقب العروس الملعونة.
ستكون مجرد فتاة في حفلة راقصة، وستحرص إيفانجلين على أن تكون أفضل حفلة في حياتها.
وبحلول الوقت الذي تعودان فيه إلى فاليندا، سيكون لوك ذكرى منسية لكلتيهما.

أعادت إيفانجلين الابتسامة للأختين الملكيتين وسألت:
“إذا وافقتُ، هل سيكون من الممكن أن آخذ أختي غير الشقيقة معي؟”

قالت الإمبراطورة بلطف “إنها فكرة جميلة.”

تمتمت الأميرة “كان يجب أن أفكر في ذلك،” ثم تابعت، “لكن لا تقلقي، لقد فكّرنا في كل شيء آخر. ربما لاحظتِ أن فصول الشمال تختلف عن فصولنا. أول يوم من الشتاء عندهم بعد ثلاثة أسابيع فقط، لذا قد نكون بدأنا التجهيزات بالفعل.”

ثم تبادلوا الكثير من الحديث عن الإقامة والفساتين، فقد كان أسلوب الموضة مختلفًا تمامًا في الشمال
الرجال يرتدون سترات مزدوجة وجلودًا كثيرة،
أما النساء فيرتدين أثوابًا ذات تنورات مزدوجة وأحزمة زخرفية.
ثم بدأت الأميرة تتغزّل في الجواهر واللآلئ،
وإيفانجلين من الداخل كانت كأشرطة الهدايا تلتف من شدة الحماس والسعادة.

وفي النهاية، سألت إيفانجلين السؤال الأخير الذي كانت تفكر فيه
“هل تعرفان أي شيء عن الأمير؟”

“نعم!” أجابت الأختان بحماسة.

قالت الأميرة دوناتيلا “إنه—”
لكن عينيها غيمتا فجأة. “في الواقع، لا أذكر ما سمعته.”

قالت الإمبراطورة  “أنا—” لكنها توقفت هي الأخرى بنفس الطريقة، وكأن الذكريات تتبخر من عقلها.

تساءلت إيفانجلين ما إذا كانت المعلومات عن الأمير ملعونة، كما هي الحال مع العديد من القصص الشمالية.
لم تستطع أي من الأختين أن تتذكرا شيئًا عن الأمير أبولو أكاديان أو عائلته.

 

لو لم تكن إيفانجلين مألوفة تمامًا مع الشمال، لكان هذا أرعبها.
لكن ما أقلقها أكثر كان الندوب الثلاثة على معصمها على شكل قلوب مكسورة،
والتي بدأت تحترق فجأة…

الفصل الثامن

 

مرّ الوقت.

بردت الأيام.

وتغيّرت أوراق الشجر.

وانتشرت منصات بيع التفاح في زوايا الشوارع، تبيع الفطائر والتارت وحلويات موسم الحصاد. وكلما مرّت إيفانجلين بجانب إحداها والتقط أنفها رائحة الفاكهة الحلوة، كانت تفكّر في جاكس والدين الذي تدين به له، ويبدأ قلبها بالخفقان كفرسٍ يحاول الفرار من صدرها. لكن بدا أن جاكس قد نسي أمرها، تمامًا كما قال لها بويسن.

ولم يعد لوك أيضًا، ولم يُفتح متجر التحف من جديد.

أقنعت إيفانجلين أغنيس بأن تسمح لها بالعمل في مكتبة والدها السرية. لم تكن سحرية مثل متجر التحف، لكنها كانت تمنحها شيئًا تتطلّع إليه. ومع ذلك، كانت في بعض الأيام تشعر وكأنها واحدة من تلك الكتب المغبرة في رفوف المكتبة الخلفية—المجلدات التي كانت مشهورة يومًا ما، لكن لم يعُد أحد يلتفت إليها.

كانت لا تزال مشهورة بدرجة تمنع زوجة أبيها من طردها إلى الشوارع، لكنها كانت تخشى أن يحدث ذلك يومًا ما. فقد نشرت صحف الفضائح إشاعة عن قُبلتها التي تحوّل الرجال إلى حجر. ومنذ ذلك الحين، لم يُذكر اسمها إلا نادرًا وبشكل عابر. وبدأ كوتلاس ينسى أمرها هو الآخر، كما قالت أغنيس.

لكن إيفانجلين رفضت أن تفقد الأمل.

كانت والدتها، ليانا، قد نشأت في الشمال البهيّ، وقد ربّت إيفانجلين على حكاياتهم الخرافية.

في الشمال، كانت القصص الخرافية والتاريخ يُعاملان على أنهما وجهان لعملة واحدة، لأن حكاياتهم وتواريخهم جميعًا كانت ملعونة. بعض القصص لا يمكن كتابتها دون أن تشتعل فيها النيران، وبعضها لا يمكن أن يغادر الشمال، وكثير منها يتغيّر كلما رُوي، حتى يفقد واقعيته شيئًا فشيئًا. ويُقال إن كل حكاية شمالية بدأت كتاريخ حقيقي، لكن مع مرور الزمن، لعنة الحكايات الشمالية شوّهت تلك القصص حتى لم يبقَ منها سوى شذرات من الحقيقة.

إحدى القصص التي كانت ليانا ترويها لإيفانجلين كانت “أنشودة الرامي والثعلبة”، وهي حكاية رومانسية عن فتاة فلاحية ماكرة قادرة على التحوّل إلى ثعلبة، وشاب رامي أحبّها، لكنه كان ملعونًا بلعنة تجبره على مطاردتها وقتلها.

كانت إيفانجلين تحبّ هذه القصة لأنها، هي أيضًا، تحمل اسم فوكس (الثعلب)، وإن لم تكن من النوع الذي يتحوّل إلى حيوان. وربما كانت تحمل إعجابًا صغيرًا بذلك الرامي. كانت تطلب من والدتها أن ترويها لها مرارًا وتكرارًا. لكن بما أن القصة كانت ملعونة، فإن والدتها كلما اقتربت من نهايتها، كانت تنسى فجأة ما كانت تقوله. ولم تستطع أبدًا أن تخبر إيفانجلين إن كان الرامي قد قبّل فتاته الثعلبة وعاشا معًا بسعادة أبدية، أم أنه قتلها، وانتهت القصة بالموت.

كانت إيفانجلين تسأل والدتها دائمًا أن تخبرها فقط بكيفية اعتقادها أن القصة انتهت. لكن والدتها كانت ترفض دومًا.

قالت “أنا أؤمن بأن هناك احتمالات أكثر بكثير من النهاية السعيدة أو المأساة. كل قصة لديها القدرة على أن تنتهي بعدد لا نهائي من الطرق.”

كانت والدتها تكرر هذه الفكرة كثيرًا، حتى ترسّخت داخل إيفانجلين، وتغلغلت في صميم معتقداتها. وكان هذا أحد الأسباب التي دفعتها إلى شرب السم الذي حوّلها إلى حجر.
لم يكن ذلك لأنها شجاعة أو بطولية بشكل خاص؛ بل لأنها ببساطة كانت تملك أملًا أكثر من معظم الناس.
قال لها جاكس إن خيارها الوحيد لنهاية سعيدة هو أن تبتعد؛ وإن شربت السم فستظل حجرًا إلى الأبد.
لكن إيفانجلين لم تستطع تصديق ذلك. كانت تؤمن أن قصتها تملك احتمالات لا نهائية—ولم يتغيّر ذلك الإيمان.

كانت هناك نهاية سعيدة تنتظرها.

رنّ الجرس المعلّق على باب المكتبة. لم يكن الباب قد فُتح بعد، لكن الجرس لا بد أنه شعر بدخول شخص مميز، فدقّ مبكرًا بعض الشيء.

حبست إيفانجلين أنفاسها، تأمل أن يكون لوك هو الداخل. تمنت لو أنها تتخلص من هذه العادة.
لكن ذلك الأمل ذاته الذي جعلها تؤمن بوجود نهاية سعيدة، كان يجعلها تعتقد أن لوك سيعود يومًا ما. لم يكن يهم كم من الأسابيع أو الشهور مضت—كلما دقّ جرس المكتبة، لم تستطع إلا أن تأمل.

كانت تعرف أن البعض سيظن هذا حماقة منها، لكنه من الصعب جدًا أن تخرج من حبك لشخصٍ ما حين لا يوجد أحد آخر تحبه مكانه.

أسرعت بالنزول من السلم الذي كانت تقف عليه، ومرّت بجوار عدة زبائن يتصفحون الرفوف. لم يكن الشخص الذي دخل الباب هو لوك، لكنه كان مفاجئًا أيضًا.

فماريسول لم تزر إيفانجلين في المكتبة من قبل. ماريسول بالكاد
 تغادر المنزل، ونادرًا ما تترك غرفتها، وقد بدا عليها الانزعاج الشديد لأنها فعلت الأمرين اليوم. كانت تشدّ قفازاتها بتوتر مع كل خطوة.

نظرًا لكون المكتبة نوعًا ما سرية، فهي من الخارج لا تبدو بشيء يُذكر. مجرد باب بمقبض يبدو دائمًا على وشك السقوط. ومع ذلك، هناك نوع من السحر يُخيّم على الداخل شعور ضوء الشموع وقت الغسق، غبار الورق العالق في الهواء، وصفوف من الكتب الغريبة على رفوف ملتوية. كانت إيفانجلين تعتزّ بها، لكن ماريسول كانت تمشي بينها وكأنها تخشى أن تنهار فوقها.

خلال الأشهر الماضية، أصبحت العروس الملعونة جزءًا من الأساطير المحلية. لم تُعد تُقام حفلات الزفاف في الحدائق، وإذا أُلغي زفاف، فقد أصبح من سوء الحظ إعادة جدولته. وبما أنها نادرًا ما تخرج، لم يكن الناس يتعرفون بسهولة على ماريسول كالعروس الملعونة، لكن إيفانجلين لاحظت أن توتر أختها غير الشقيقة بدأ يُشعر الزبائن الآخرين وكأن شيئًا مخيفًا يحدث. خفتت المحادثات، وبدأ الناس يتجنبون ماريسول عمدًا.

اقتربت منها إيفانجلين بابتسامة، تأمل ألا تلاحظ ماريسول النظرات المتحفظة من حولها. “ما الذي أتى بك؟ هل أردتِ كتابًا؟ لقد وصلتنا دفعة جديدة من كتب الطبخ.”

هزّت ماريسول رأسها بعنف تقريبًا. “من الأفضل ألا ألمس شيئًا. قد يظن الناس أنني لعنت الكتب.” ونظرت بقلق إلى الباب، حيث كان زوجان يغادران بسرعة.

قالت إيفانجلين مطمئنة: “لم يغادروا بسببك.”

تجهم وجه ماريسول، ولم تبدُ مقتنعة. “لن أبقى طويلًا. أتيت فقط لأعطيكِ هذه.” وقدّمت ورقة فاخرة من اللون الأحمر الغامق مزينة بزخارف من ورق الذهب وختم شمعي أحمر عليه رمز.

قالت ماريسول “عندما رأيت أنها وصلت، ظننت أنها مهمة، وأردت التأكد من أن والدتي لن تخفيها عنك.” وتمكنت أخيرًا من الابتسام—ابتسامة بدت ماكرة بعض الشيء عند الزوايا. “أعلم أنني لن أستطيع تعويضك عن الأسابيع التي قضيتِها كتمثال، لكنها لفتة بسيطة.”

قالت إيفانجلين “لقد قلتُ لكِ بالفعل، أنتِ لا تدينين لي بشيء.” وشعرت بطعنة الذنب المعتادة. كل يوم، كانت تفكر في إخبار ماريسول بالحقيقة، وكل يوم، لم تملك الشجاعة الكافية لذلك. بين عملها في المكتبة وعزلة ماريسول، لم تقتربا من بعضهما كثيرًا. لكنها لا تزال أقرب ما تملكه من عائلة.

في يومٍ ما، ستخبر أختها غير الشقيقة بالحقيقة، لكنها لم تستطع فعل ذلك بعد.

ولم تمنحها ماريسول الفرصة. فما إن سلّمتها الورقة الحمراء، حتى اختفت بنفس الطريقة التي دخلت بها، تاركة إيفانجلين وحدها تفتح الرسالة الغامضة.

الرسالة:

عزيزتي الآنسة فوكس،

ستكون شقيقتي وأنا في غاية السرور لو تشرّفتينا غدًا على شاي ما بعد الظهيرة في محكمة طائر الطنان الملكي، عند الساعة الثانية تمامًا. لقد تابعناكِ بإعجاب من بعيد، وهناك فرصة مثيرة نودّ مناقشتها معك.

 

أطيب التحيات،
سكارليت ماري دراغنا
إمبراطورة إمبراطورية الميريديان

الفصل السابع

 

لو كانت العواصف تُصنع من صحف الفضائح، وطوابير من الرجال مرتدين كرافتات مشدودة، ورسائل ذات أصول مشبوهة،
فإن عاصفة مثالية كانت تتكوّن في عالم إيفانجلين في صباح اليوم التالي.
لكنها لم تكن تعلم بذلك بعد.

كل ما كانت تعرفه هو تلك الرسالة الغامضة الأصل، والتي دفعتها للتسلل خارج المنزل عند طلوع الفجر.


—————————————
قابلني.
في متجر التحف الغريبة.
أول شيء بعد شروق الشمس.
—لوك
——————————————


كاد قلب إيفانجلين أن ينفجر من شدة الخفقان حين عثرت على الرسالة في غرفتها ليلة البارحة.
 لم تكن تعرف إن كانت رسالة جديدة أم قديمة ولم تجدها إلا الآن.
 لكنها ظلت تقرؤها مرارًا وتكرارًا حتى غفت، آملةً أن يكون لوك بانتظارها في الصباح
 مع قصة مختلفة عن تلك التي سمعتها من ماريسول.

لقد زعزعت محادثة الأمس مع ماريسول يقينها؛ وكادت تقنعها بأنها كانت تخدع نفسها بشأن لوك.
لكن الأمل شيء يصعب قتله، فمجرد شرارة منه قادرة على إشعال حريق،
 وهذه الرسالة قد أهدتها تلك الشرارة من جديد.

كان والدها يمتلك أربعة متاجر ونصف عبر فاليندا. كان الشريك الصامت لنصف المتجر خياط يحيك الأسلحة داخل الملابس.
وقد بنى مكتبة سرية لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال ممر سري.
ثم كان هناك متجره في حي التوابل، المزيَّن بملصقات “مطلوب” تحمل تعليقات أشبه بقصص جرائم خيالية.
أما متجره الثالث فكان سرًّا حتى عن إيفانجلين نفسها.
أما المتجر الرابع، فكان المفضل لديها متجر التحف الغريبة ماكسيميليان، وخيالاته، وغرائبه الأخرى.

ذلك المتجر هو المكان الذي بدأت فيه إيفانجلين العمل ما إن سمح لها والدها بذلك.
كان والدها يقول للزبائن إن كل ما في المتجر يكاد يكون سحريًا.
لكن إيفانجلين كانت دائمًا تعتقد أن بعض الأغراض التي مرت على متجره كانت مسحورة فعلاً.
كانت كثيرًا ما تطارد قطع شطرنج خرجت من ألواحها، وأحيانًا كانت اللوحات تغير تعابيرها من يوم لآخر.

ضاق صدر إيفانجلين بشيء يشبه الحنين وهي تدور حول الزاوية المؤدية إلى الشارع المرصوف بالطوب حيث يقع متجر تحف ماكسيميليان.
لقد افتقدت المتجر خلال الأسابيع التي قضتها كتمثال حجري، لكنها لم تشعر بمدى هذا الفقد إلا في تلك اللحظة.
افتقدت الجدران التي رسمتها والدتها، والرفوف المكدسة بمقتنيات والدها، والجرس—

توقفت إيفانجلين فجأة.

كان متجر تحف ماكسيميليان قد أغلق أبوابه. النوافذ المبطّنة بالنحاس تم تغطيتها بالألواح.
والمظلة قد اقتُلعت، ورُسم على الباب طلاء جديد يُخفي الاسم السابق:

تحت ملكية جديدة
مغلق حتى إشعار آخر

“لا!” صاحت إيفانجلين، “ليس المتجر!” وبدأت تضرب الباب مرارًا وتكرارًا.
كان هذا آخر ما تبقّى لها من والدها. كيف يمكن لأغنيس أن تفعل هذا؟

“عذرًا، ايتها الانسة الصغيرة.” سقط ظل دورية ممتلئ فوقها. “يجب أن تتوقفي عن الطرق.”

قالت بإصرار “أنت لا تفهم. هذا المتجر كان لوالدي—وقد أوصى به لي.”
واستمرت في الطرق، وكأن الباب قد يُفتح بسحر ما، وكأن لوك يقف خلفه، وكأنها لم تفقد لتوّها آخر أثر من والديها.
“منذ متى وهو مغلق؟”

قال الحارس “أنا آسف، آنسة. أظنه أُغلق منذ نحو ستة أسابيع و—”
ثم أضاء وجهه فجأة وقال “يا للعجب — إنها أنتِ منقذة فاليندا الحبيبة.”
وتوقف ليمسّد شعره.
“لو سمحتي ، يا آنسة، فأنتِ أجمل حتى مما تصفه الصحف. هل تعلمين من أين يمكنني الحصول على إحدى تلك الطلبات؟”

قالت إيفانجلين، وقد أوقفها القلق عن الطرق فجأة “طلبات ماذا؟”
 مدّ الحارس يده إلى جيبه الخلفي وأخرج ورقة من صحيفة بالأبيض والأسود…

 

______________________________
صحيفة الهمسات 

من الشوارع إلى التماثيل إلى النجومية:
مقابلة مع منقذة فاليندا المحبوبة

بقلم: كوتلاس نايتلينغر

تبدو إيفانجلين فوكس، ذات السبعة عشر عامًا، كأميرة من قصص الخيال، بشعرها الوردي المتلألئ وابتسامتها البريئة. لكنها قبل أسابيع فقط، كانت يتيمة بلا والدين. وعندما تحدثتُ معها مؤخرًا، أخبرتني أنها لا تتذكر آخر مرة تناولت فيها الطعام.

لم تُدعَ إلى حفل زفاف لوس نافارو وماريسول تورمالين – التي يعرفها الكثيرون بلقب “العروس الملعونة” – ومع ذلك، عندما صادفت إيفانجلين هذا الحفل وقد تحوّل كل من فيه إلى حجر على يد أحد الأقدار، لم تتردد في إنقاذهم جميعًا، بأن أخذت مكانهم وتحولت إلى تمثال.

قالت لي
“أعتقد أنني فعلت ما كان ليفعله أي شخص آخر في مكاني. أنا حقًا لستُ بطلة.”

كانت إيفانجلين متواضعة للغاية، وكان من الصعب أن تتحدث عن بطولتها. لكنها، منقذة فاليندا المحبوبة، كانت متحمسة للكلام حين ذكرتُ والدة العروس الملعونة، أغنيس تورمالين، وخططها الكريمة لتبنّي إيفانجلين.

قالت
“أشعر وكأن الرعب الذي عشته يتحول إلى قصة خرافية.”

كما أخبرتني أغنيس أن إيفانجلين تتطلع إلى المضي قدمًا في حياتها بأسرع وقت، وهي الآن تقبل خطّاب الزواج من خلال تقديم الطلبات الرسمية لطلب يدها—
______________________________________


“يا إلهي…” قالت إيفانجلين بابتسامة غير مستقرة لحارس الدورية. “أنا آسفة، هذه الصحيفة مخطئة. أنا لا أبحث عن خطّاب.” ارتجفت لمجرد استخدام الكلمة. لم تُفاجأ. كانت تعلم أن عناق أغنيس وابتسامتها بالأمس لم يكونا صادقين. لكن لم تكن تتوقع أن تبيعها زوجة أبيها بهذه السرعة.

كان المارة في الشارع قد بدأوا بالفعل بالتوقف والتحديق. وبعض الرجال المتحمسين بدا أنهم يجمّعون شجاعتهم للاقتراب منها.

ولو كان جاكس حاضرًا، لربما اعتبر الأمر دليلاً على أنه خدمها بجعلها مشهورة. لكن هذا لم يكن ما تريده.

ألقت إيفانجلين بورقة الفضيحة في أقرب سلة قمامة، ونظرت مرة أخرى إلى رسالة لوك. كانت الرسالة قديمة. أدركت ذلك الآن—ما كان ليرسلها وهو يعلم أن المتجر مغلق.

لم تكن إيفانجلين ترغب بالبكاء بقدر ما كانت ترغب بالعودة إلى الوراء، إلى ما قبل.
إلى ما قبل أغنيس، إلى ما قبل لوك، إلى ما قبل فقدان والديها. كانت تريد فقط عناقًا آخر من والدها، ولمسة واحدة من والدتها وهي تمسّد شعرها. الألم الذي شعرت به لفقدان لوك لم يكن سوى خدش مقارنةً بغياب والديها. كانت لا تزال تحب لوك، لكنها كانت تفتقد الحياة التي فقدتها أكثر.


كان من الصعب ألا تشعر بالحزن وهي تخطو عائدة نحو المنزل، الذي لم يعد منزلًا لها منذ وفاة والدها. كانت عادةً تعشق المدينة. تحب ضجيجها، ازدحامها، ورائحة الكعك الطازج المتسللة من المخبز عند الزاوية. لكن في هذا اليوم، كانت رائحة الشارع تعبق بعطر غريب ومفرط.

وشعرت بالغثيان، لكن ما جعلها تتجمد مكانها كان منظر الرجال المتأنقين المنتظرين أمام منزلها. يرتدون أفضل معاطفهم وعباءاتهم وقبعاتهم، مصطفين أمام الباب حيث وقفت أغنيس تستقبل الزهور والمجاملات وصفحات الطلبات بسعادة.

“إنها تقبل الخطّاب عبر تقديم طلبات الزواج—”

انقبضت يدا إيفانجلين بغضب. كان بعض الرجال جذابًا إلى حد ما، لكن كثيرين منهم كانوا في عمر والدها أو أكبر. ربما كانت لتستدير وتغادر، لولا أن أغنيس أغلقت متجر التحف. لكنها شعرت أنها تميل للمواجهة أكثر من الهروب.

سارت نحو المنزل بابتسامة متظاهرة.

“ها هي!” همست أغنيس بتصنع.

لكن إيفانجلين لم تمنحها فرصة لقول المزيد. استدارت نحو الرجال، رفعت صوتها وقالت
“شكرًا لحضوركم، لكنني أود أن يغادر الجميع.”
ثم توقفت، ورفعت يدها اليسرى إلى جبهتها بتمثيل درامي، وأغلقت عينيها مقلّدة حركة رأتها ذات مرة في مسرحية حزينة حضرتها مع والدها
“لم أعد تمثالًا، لكنني لا أزال ملعونة، وأي شخص أقبّله سيتحوّل إلى حجر.”

انطلقت همهمات:
“إلى حجر…”
“ملعونة!”
“أنا راحل من هنا!”

تفرق الرجال بسرعة، ومعهم تلاشت ابتسامة زوجة أبيها المصطنعة.

أمسكت أغنيس بكتفي إيفانجلين وغرست أصابعها فيها. “ما الذي فعلتِه، أيتها الفتاة التعيسة؟ هؤلاء الخطّاب لم يكونوا لك فقط. كانت هذه فرصة ماريسول لتستعيد الاهتمام!”

تألّمت إيفانجلين وابتعدت. شعرت بوخز من الذنب تجاه أختها غير الشقيقة، لكن كما اتضح، ماريسول لم تكن قد تجاوزت لوك أيضًا.

“لا تظهري نفسك كضحية،” قالت إيفانجلين. “أنتِ من أخطأ، وأنتِ من بعتِ متجر والدي. المتجر كان من نصيبي حسب وصيته.”

“لقد اعتُبِرتِ ميتة.” تقدّمت أغنيس بخطوة مهددة.

تجمدت إيفانجلين. لم يسبق لأغنيس أن ضربتها، لكنها أيضًا لم تمسك بها بقوة من قبل. وكرهت أن تفكر بما قد تفعله بعد ذلك. فلو طردتها من المنزل، فلن يكون لها مكان تذهب إليه.

وربما كان عليها التفكير في ذلك قبل أن تطرد الخطّاب، لكن الوقت فات، ولم تكن متأكدة أنها كانت ستتراجع.

“أتمنى ألا يكون هذا تهديدًا، أغنيس.” قالت بصوت حاولت أن تجعله قويًا. “لا تعلمين من قد يكون ما يزال يستمع، وسيكون من العار أن تصل حقيقتك إلى شخص مثل كوتلاس نايتلينغر.”

توهجت فتحات أنف أغنيس. “كوتلاس لا يستطيع حمايتك إلى الأبد. يجب أن تكوني أدركتِ مدى سرعة تغيّر اهتمام الشبان. سيتركك كوتلاس نايتلينغر كما تركك حبيبك لوك.”

طعنتها الكلمات في قلبها مباشرة.

ابتسمت أغنيس كما لو كانت تنتظر هذه اللحظة. “كنت سأنتظر لأُري هذه الرسالة لماريسول أولًا، لكنني غيّرت رأيي.” سحبت ورقة من بين طلبات الزواج، وناولتها لإيفانجلين.

ترددت إيفانجلين قبل أن تفتحها.


_______________________
ماريسول، كنزي الأغلى،
أتمنى لو لم أضطر إلى الوداع بهذه الطريقة. لكنني آمل ألا يكون وداعًا حقيقيًا.
أنا أغادر فاليندا على أمل أن أجد معالجًا.
في المرة القادمة التي ترين فيها وجهي الجميل، سأكون لوك الذي أحببته أول مرة،
وسنكون معًا من جديد.
مع كل نبضة من قلبي—
________________________


لم تكن بحاجة لقراءة المزيد. كانت تعرف خطّ لوك من أول نظرة.

كتب لها رسائل من قبل، لكنها كانت دومًا قصيرة مثل تلك التي وجدتها الليلة الماضية. لم يسبق أن ناداها بـ”كنزه الأغلى” أو ذكر قلبه النابض.

“هذا مستحيل…” تمتمت إيفانجلين. “ما الذي فعلتِه به؟”

ضحكت أغنيس. “أنتِ حقًا طفلة غبية. كان والدك يقول دائمًا إنكِ تؤمنين بالأشياء التي لا تُرى وكأنها نعمة. لكن حان الوقت لتبدئي بالإيمان بما ترينه أمامك.”


عاشت عائلة لوك نافارو في أحد أطراف المدينة الراقية، حيث كانت المنازل أكبر ومتباعدة أكثر. وكان ذلك النوع من الأحياء يجعل إيفانجلين دائمًا تشعر بالحاجة إلى أخذ نفسٍ عميق كلما اقتربت منه.

في اليوم الذي أعلنت فيه ماريسول خطوبتها على لوك، ركضت إيفانجلين طوال الطريق إلى هنا. طرقت باب منزل لوك، وهي واثقة أنه حين يُفتح، سيخبرها لوك أن كل ما حدث كان مجرد سوء تفاهم كبير.

كان لوك حبها الأول، وأول قبلة، وكان قلبها حين توقف قلبها عن النبض.
 لم تستطع تخيل أنه لا يحبها، كما لو أن الأمر مستحيل كاستحالة السفر عبر الزمن.
 كان جزء منها يعلم أن ذلك ربما يكون صحيحًا، لكن روحها كانت تؤكد العكس.
 كانت تتوقع أن يؤكد لها لوك ذلك. لكن لوك لم يخبرها بأي شيء.
أرسلها الخدم بعيدًا وأغلقوا الباب في وجهها. وفعلوا الشيء نفسه في اليوم التالي،
وكل يوم يليه.

لكن اليوم كان مختلفًا أخيرًا.

اليوم، لم يجب أحد حين طرقت الباب.

لم تسمع إيفانجلين أي خطوات داخل المنزل، ولا أصواتًا. وعندما وجدت فتحة صغيرة بين الستائر المسدلة، لم ترَ سوى الأثاث مغطًى بالأغطية البيضاء.

لقد غادر لوك وعائلته، تمامًا كما قالت رسالته.

 

لم تكن إيفانجلين تعلم كم من الوقت بقيت واقفة هناك. لكن في النهاية،
تذكّرت كلمات جاكس، وبدأت تتساءل إن كان محقًا عندما قال:
لو كان يحبك، لما تزوج غيرك. نهاية القصة.

الفصل السادس

 

شيء يشبه الضوء دغدغ بشرتها.

بشرتها.

كانت إيفانجلين تشعر ببشرتها.

لم تكن قد شعرت بأي شيء منذ—في الحقيقة، لم تكن تعرف كم من الوقت قد مضى. لطالما كان هناك فراغ كامل، أما الآن فقد أصبحت تشعر بكل شيء. جفونها. كاحلاها. مرفقاها. شفاهها. ساقاها. عظامها. بشرتها. رئتاها. قلبها. شعرها. عروقها. رُكبتيها. شحمتا أذنيها. عنقها. صدرها.

كانت ترتجف من ذقنها حتى أطراف قدميها. وكانت بشرتها مغطاة بالعرق، وكان الشعور بذلك رائعًا—باردًا، رطبًا، حيًّا.

لقد عادت للحياة!

“مرحبًا بعودتك.” ذراعٌ قوية أحاطت بخصر إيفانجلين بينما كانت ساقاها المتذبذبتان تعتادان مجددًا على كونها عضلات وعظام.

ثم بدأ بصرها يعود للوضوح.

وربما لأنها لم ترَ وجهًا منذ زمن، بدا الشاب الذي التفّ ذراعه حولها وسيمًا بشكل استثنائي—بشرته بنية داكنة، عيناه محاطتان بهالة كثيفة من الرموش، ابتسامة توحي عن كمّ هائل من السحر والجاذبية. كان كتفاه مغطّيان بعباءة خضراء درامية، مبطنة بأوراق نحاسية لامعة تضاهي وجهه بهاءً. “هل يمكنك التحدث؟” سأل.

“لماذا—” سعلت إيفانجلين لتتخلص من الخشونة في حلقها. “لماذا تبدو وكأنك ساحر غابة؟”

تشنّجت بمجرد أن خرجت الكلمات من فمها. كان واضحًا أن عقلها لم يتحكم بعد في كلامها بشكل جيد. لقد أنقذها هذا الغريب، وتأمل ألا تكون قد أساءت إليه.

ولحسن الحظ، اتّسعت ابتسامة الشاب المتألقة. “ممتاز. أحيانًا لا تعود القدرة على الكلام مباشرة. الآن، أخبريني باسمك الكامل يا عزيزتي. أحتاج أن أتأكد من أن ذاكرتك سليمة قبل أن أسمح لكِ بالمغادرة.”

“المغادرة إلى أين؟” حاولت إيفانجلين أن تستوعب باقي محيطها. بدا وكأنها في مختبر. كل طاولة عمل وكل رف من رفوف الصيدلية كان مليئًا بالقوارير الفوّارة أو المراجل الفوّاحة، التي ملأت الهواء برائحة تشبه الراتنج. لم يكن هذا حديقة والدتها. الشيء الوحيد المألوف في الغرفة كان شعار إمبراطورية ميريديان الملكي مرسومًا على أحد الجدران الحجرية. “أين نحن؟ وكم من الوقت كنتُ تمثالًا؟”

“فقط حوالي ستة أسابيع. أنا صانع الجرعات في القصر، وأنتِ في مختبري الممتاز. لكن يمكنكِ المغادرة بمجرد أن تخبريني باسمك.”

أخذت إيفانجلين لحظة لتجميع أفكارها. ستة أسابيع تعني أنهم في منتصف موسم الحرّ. ليست خسارة مدمّرة. كان يمكن أن تكون ست سنوات، أو ستين.

لكن إن كانت فقط ستة أسابيع، فلماذا لم يكن هناك أحد في استقبالها؟ كانت تعرف أن زوجة أبيها لا تكنّ لها الكثير من المودة، ولم تكن قريبة من أختها غير الشقيقة، لكنها أنقذت حياتهم. ولوك… لكنها لم ترغب في تخيّل سبب غيابه. هل من الممكن أن أحدًا لم يعلم أنها قد أُعيد إحياؤها؟
“أنا إيفانجلين فوكس.”

“يمكنكِ مناداتي بـ ‘بويسن’ (السم).” ترك صانع الجرعات خصرها ليرفع يده في إيماءة فخمة.

وعلى الفور، عرفت إيفانجلين من يكون هذا الشاب. كان ينبغي أن تدركه من البداية. فقد بدا تمامًا كصورته على بطاقة التنبؤ بالمصير من “أوراق القدر”. كان يرتدي عباءة طويلة متدفقة، وخواتم مرصعة بالجواهر في كل أصبع، ومن الواضح أنه يعمل مع الجرعات. بويسن هو “المُسمِّم”. أحد الاقدار الخالدة، تمامًا مثل جاكس.

“كنت أظن أن كل الاقدار قد اختفوا.” قالت إيفانجلين بفزع.

“لقد عدنا مؤخرًا عودة عظيمة، لكن هذه ليست قصة هذا الأمر.” أصبح وجه بويسن ساكنًا بشكل مخيف، محذّرًا إياها أن هذا موضوع لا يريد مناقشته.

ربما كانت إيفانجلين لا تزال مترنحة، لكنها كانت أذكى من أن تُلحّ، على الرغم من كل الأسئلة التي أثارها هذا الاكتشاف. لم تكن سمعة بويسن مميتة مثل جاكس. ووفقًا للأساطير، لم يكن يؤذي أحدًا بشكل مباشر عادة، لكنه يصنع ترياقات سامة وجرعات غريبة وسيرومات عجيبة للآخرين، والذين أحيانًا يستخدمونها استخدامًا فظيعًا.

نظرت إيفانجلين إلى الكأس الذي لا يزال في يدها.

سم
لا تشربني

“هل تمانعين إن أخذت هذا؟” وبإحدى يديه المرصعة بالجواهر، أخذ بويسن الكأس.

تراجعت إيفانجلين خطوة حذرة. “لماذا أنا هنا؟ هل طلب منك جاكس مساعدتي؟”

ضحك بويسن، وعاد وجهه إلى نبرة الودّ. “آسف يا عزيزتي، لكن جاكس على الأرجح نسي أمرك تمامًا. لقد وقع في ورطة خلال الأسابيع التي كنتِ فيها حجرًا. أؤكد لكِ أنه لن يعود إلى فاليندا.”

كانت إيفانجلين تعرف أنه لا ينبغي أن تكون فضولية. فبعد آخر لقاء لها مع جاكس، لم تكن ترغب أبدًا برؤيته ثانيةً ولا أن تعطيه فرصة ليطالب بالدين الذي تدين به له. لكن جاكس لم يكن من النوع الذي يفرّ. لم يكن يمكن قتله—إلا إذا كانت تلك الأسطورة خاطئة، والاقدار ليسوا خالدين بالكامل؟

“ما نوع الورطة التي وقع فيها جاكس؟” سألت.

ضغط بويسن على كتفها بطريقة جعلت كلمة ورطة تبدو تقليلاً كبيرًا لما حدث لجاكس. “إن كنتِ تملكين ذرة من حب للعيش، فانسِ أمره.”

“لا تقلق.” قالت إيفانجلين. “لا رغبة لي برؤية جاكس مرة أخرى على الإطلاق.”

رفع بويسن حاجبًا متشككًا. “قد تقولين هذا، لكن ما إن تخطين عبر باب عالمنا، يصبح من شبه المستحيل العودة إلى العادي. معظمنا غادر هذه المدينة، لذا من غير المرجح أن تصادفي أحدًا منا صدفة. لكن الآن بعد أن تذوّقتِ عالمنا، ستبدأ حياتك العادية بالشحوب. ستنجذبين إلينا. حتى لو لم ترغبي برؤية جاكس مجددًا، ستنجذبين إليه حتى تكملي الصفقة التي أبرمتيها معه. لكن إن كنتِ ترغبين بفرصة للسعادة، فقاومي هذا الجذب—جاكس لن يقودكِ إلا إلى الهلاك.”

انعقدت شفتا إيفانجلين في عبوس. لم تكن تختلف معه، لكنها لم تفهم لماذا يُقدم قدر خالد على تحذيرها.

“لن أفهم البشر أبدًا.” تنهد بويسن. “كلكم تستقبلون أكاذيبنا بصدر رحب، لكن لا يعجبكم الأمر حين نقول الحقيقة.”

“ربما من الصعب تصديق أن قدر خالد قد يساعد إنسانًا بدافع طيب النية؟”

“وماذا لو قلت لكِ أنني أتصرف بدافع مصلحتي الشخصية؟” أخذ بويسن رشفة من كأسه. “فاليندا هي موطني. ولا أرغب بأن أُجبر على الفرار إلى الشمال مثل الآخرين بسبب سوء السلوك — السحر هناك يفسد قدراتي، بالإضافة إلى أن الطقس شديد البرودة. لهذا السبب أحاول أن أكون مفيدًا هنا. والآن، انطلقي، هناك آخرون في القاعة الكبرى بانتظار رؤيتك.”

أدارها بويسن نحو درج حلزوني، حيث شمّت إيفانجلين واحدة من أشهى الروائح: كعكة السكر الوردي.

قرقرت معدتها. لم تكن قد أدركت كم كانت جائعة.

بعد أن شكرت بويسن، صعدت الدرجات.

وفي ثوانٍ، أصبح الهواء أكثر حلاوة، وتحولت الدنيا إلى إشراق جعلها تشعر وكأن حياتها السابقة لم تكن سوى باهتة. كانت القاعة الكبرى تبدو وكأنها مصنوعة من البريق والضوء؛ ثريات ذهبية على شكل تيجان تعلو طاولات مذهبة، وقيثارات، وبيانو فاخر بمفاتيح ذهبية. ومع ذلك، كان منظر الناس هو ما جعلها تنسى كيف تتنفس.

الكثير من الناس. جميعهم يصفقون ويبتسمون لها.

كانت إيفانجلين ودودة مع كثيرين من متجر والدها للغرائب، ويبدو أن كل واحد منهم كان هناك للترحيب بعودتها. كان ذلك مؤثّرًا ومبهجًا، لكنه بدا غريبًا بعض الشيء أيضًا.

“مرحبًا، أيتها الجميلة!” نادت السيدة مالوري، التي كانت تجمع خرائط الأماكن الخيالية. “لدي الكثير لأخبرك به عن حفيدي.”

“لا أستطيع الانتظار لسماعه.” ردّت إيفانجلين، قبل أن تُصافح رجلًا كان يطلب دائمًا كتب طهو أجنبية نادرة.

“أنا فخورة بك!” صاحت الليدي فين، التي كانت تحب أواني الحبر المتلاشي.

بعد أسابيع من الفراغ الكامل، كانت إيفانجلين ملفوفة بالأحضان والقبلات على وجنتيها. ومع ذلك، انقبض قلبها حين لم تجد لوك بين الحاضرين.

كانت أختها غير الشقيقة تقف على الجانب، ولم يكن لوك معها أيضًا. لكن إيفانجلين لم تشعر بالراحة التي كانت تتوقعها من غيابهما معًا. هل لم يعلم لوك بهذا التجمع؟ أم أن هناك سببًا آخر جعله يختار عدم الحضور؟

كانت تعابير ماريسول يصعب قراءتها. كانت تتمايل واقفة وتحاول منع ذبابة من الهبوط على كعكة السكر الوردية اللامعة بين يديها. لكن ما إن رأت إيفانجلين، حتى اتّسعت ابتسامتها حتى صارت في جمال الكعكة نفسها.

كانت أغنيس تحتقر حب ابنتها للخبز—كانت تريد أشياء عظيمة لماريسول، وكانت تقول إن الطبخ هواية عادية جدًا—لكن إيفانجلين تساءلت إن كانت قد سمحت لها بصنع هذه الحلوى خصيصًا لهذا اليوم. كانت هناك أربع طبقات من الكعكة الوردية الهشة، وطبقات بديلة من كريمة السكر، وقوس من الزينة، وبطاقة بسكويت ضخمة على شكل بطاقة هدية كتب عليها:
مرحبًا بعودتك، أختي!

امتزج شعور الذنب الكثيف بثقل مع عدم ارتياح إيفانجلين. لم تكن لتتوقع مثل هذا التصرف من أختها غير الشقيقة، وبالتأكيد لم تكن تستحقه.

“أوه، ها هي فتاتي العزيزة الجميلة!” اقتربت أغنيس وألقت ذراعيها حول إيفانجلين. “كنا قلقين عليك بشدة. كان من المريح جدًا أن نسمع بوجود من يستطيع معالجتك.”
شدّت أغنيس على إيفانجلين أكثر وهمست،
“العديد من الخُطّاب قد استفسروا عنك. والآن بعد أن عدتِ، سأرتب لزيارة أغناهم.”

 

لم تكن إيفانجلين متأكدة من كيفية الرد—لا على ما قالته أغنيس للتو،
 ولا على هذا الإصدار الجديد من زوجة أبيها التي تؤمن بالعناق.
 حتى عندما تزوجت أغنيس من والد إيفانجلين لأول مرة، لم تعانقها قط.
لقد تزوجت أغنيس من ماكسيميليان لنفس السبب الذي تزوجها من أجله—لضمان أن تُؤمَّن حياة ابنته.
 لم يكن ماكسيميليان فوكس ثريًّا—فقد فشلت مشاريعه التجارية بقدر ما نجحت تقريبًا—
لكنه كان خيارًا محترمًا لأرملة لديها ابنة.

أفلتت أغنيس إيفانجلين من العناق، فقط لتوجهها نحو رجل تمنّت إيفانجلين ألا يكون خاطبًا.

كان يرتدي قميصًا حريريًّا أبيض واسعًا تتدلى من عنقه كَرَفَة دانتيل فاخرة،
ويقترن ذلك بسروال جلدي أسود ضيّق للغاية حتى إن إيفانجلين استغربت كيف يستطيع التحرك.

قالت أغنيس “إيفانجلين، هذا السيد كوتلاس نايتلينغر من صحيفة ذا ويسبر غازيت”.

قالت إيفانجلين بدهشة “أأنت تكتب لتلك الصحف الفضائحية؟”

أجابت أغنيس باستياء “إنها ليست صحفًا فضائحية؛ إنها مجلة دورية”، مما جعل إيفانجلين تظن أن الصحيفة الوليدة قد نمت في عدد قرائها ومصداقيتها منذ المقال الذي ألهمها البحث عن باب كنيسة أمير القلوب.

قال كوتلاس نايتلينغر وهو يمرر قلماً مغطى بالريش الأسود على شفتيه “في الواقع لا يهمني ما تسمينها، آنسة فوكس، طالما سُمح لي أن أكتب عنك فيها. لقد كنت أتابع كل ما يتعلق بعودة الأقدار الخالدين، ولدي عدة أسئلة لكِ.”

شعرت إيفانجلين فجأة بعدم ثبات في قدميها. آخر ما تريده هو الحديث عما حدث مع جاكس. لا يمكن لأحد أن يعرف أنها عقدت صفقة مع أحد الأقدار.

ولو كانت قد تعافت تمامًا، لكانت انسحبت منه بعذر ذكي. لكنها لم تكن كذلك، وكان السيد كوتلاس نايتلينغر، بصدره المزدان بالدانتيل وسرواله الجلدي الأسود، هو من أخذ زمام الأمور.

بسرعة، اقتادها بعيدًا عن الحفل، عبر ستائر ذهبية سميكة، إلى مقعد مخفي داخل محراب تفوح منه رائحة الغموض والمسك والسحر المزيف. أو ربما كانت تلك رائحة عطر نايتلينغر.

قالت إيفانجلين وهي تحاول النهوض “سيد نايتلينغر— لا أعتقد أن اليوم مناسب للمقابلة.”
وبدأ العالم يدور من حولها. كانت بحاجة شديدة إلى الطعام.

ضحك كوتلاس، ضحكة سريعة مدروسة تمامًا كضربات قلمه “لا تقلقي، ما تقولينه لا يهم كثيرًا. أنا أجعل الأشخاص الذين أُجري معهم المقابلات يبدون رائعين. والجميع يحبك بالفعل. بعد التضحية التي قدمتيها، أصبحتِ من أبطال فاليندا المفضلين.”

قالت “لكني لست بطلة حقًا.”

“أنت متواضعة للغاية.” اقترب منها كوتلاس أكثر. وكانت الرائحة الثقيلة المحيطة بها بالتأكيد من عطره. “خلال أسبوع الرعب—”

“ما هو أسبوع الرعب؟”

“كان مثيرًا للغاية! بدأ مباشرة بعد أن تحولتِ إلى حجر. عادت الأقدار الخالدة—هل تصدقين أنهم كانوا محتجزين داخل رزمة من البطاقات؟! تسببوا في الكثير من الفوضى والاضطراب عندما هربوا وحاولوا السيطرة على الإمبراطورية. لكن قصتك، حين ضحيتِ بنفسك بدلًا من الحفل وتحوّلتِ إلى حجر، ألهمت الناس في كل مكان خلال تلك الفترة العصيبة. أنتِ بطلة.”

جفّ حلق إيفانجلين فجأة. لا عجب في أن الحضور كان كبيرًا. “آمل أنني فعلت ما كان سيفعله أي شخص آخر لو كان مكاني.”

قال وهو يخرج مفكرة صغيرة بشكل مستحيل من سترته الجلدية ويبدأ بالكتابة “هذا مثالي. قرّائي سيحبون ذلك. الآن—”

قاطعته معدتها بأزيز مرتفع.

ضحك كوتلاس “قليلاً من الجوع؟”

قالت “لا أذكر آخر مرة أكلت فيها. ربما علي أن—”

“لدي فقط بضع أسئلة إضافية. هناك شائعات تقول إنه بينما كنتِ ما تزالين حجرًا، بدأت والدتك بالتبني بتلقي عروض زواج باسمك—”

قاطعت إيفانجلين بسرعة “أوه، أغنيس زوجة أبي فقط، لم تتبنّني.”

“لكن من الآمن أن نقول إنها ستفعل الآن.” غمز كوتلاس. “نجمكِ في صعود، آنسة فوكس. الآن، هل لي بكلمة وداعية لمعجبيكِ؟”

كلمة معجبين تركت طعمًا مريرًا في فمها. لم تكن تستحق أي معجبين. وسيتغير رأي الجميع دون شك إن عرفوا ما فعلته حقًا.

قال وهو يمرر قلمه مجددًا “إن لم تكوني قادرة على الكلام، سأخترع شيئًا رائعًا.”

قالت بسرعة “انتظر—” لم تكن تعرف بعد ما ستقوله، لكنها ارتجفت من مجرد التفكير بما قد يكتبه. “أعلم أن القصص كثيرًا ما تكتسب حياة خاصة بها. وأشعر بالفعل أن الرعب الذي مررتُ به يتحول إلى حكاية خرافية، لكنني لست مميزة، وهذه ليست حكاية خرافية.”

قاطعها كوتلاس “ومع ذلك، انتهى الأمر لصالحك.”

قال صوت ناعم خلفهم “لقد كانت حجرًا لستة أسابيع. لا أعتقد أن ذلك يعتبر نهاية جيدة.”

نظرت إيفانجلين من فوق كتف كوتلاس لترى أختها غير الشقيقة.

وقفت ماريسول بين الستائر الذهبية، تمسك كعكة السكر خاصتها كدرع.

استدار كوتلاس وهو يصدر حفيفًا من الدانتيل والجلد “العروس الملعونة!”

واحمرّ وجه ماريسول بدرجة مؤلمة.

قال كوتلاس بحماسة “هذا رائع!” وبدأ قلمه في الحركة مجددًا. “أرغب في الحديث معكِ.”

قاطعت إيفانجلين، وقد شعرت أن ماريسول هي من تحتاج للإنقاذ الآن “في الواقع، لم أقضِ أي وقت مع أختي غير الشقيقة، لذا سأخطفها قليلاً لتناول بعض الكعك.”

دفعت إيفانجلين كوتلاس أخيرًا، وارتبطت ذراعًا بذراع مع أختها، وغادرت عبر الستائر.

قالت ماريسول وهي تتشبث بها “شكرًا لك.”
وعلى الرغم من أنهما لم تكونا معتادتين على الترابط بهذه الطريقة،
 شعرت إيفانجلين أن ماريسول قد أصبحت أنحف. كانت دائمًا نحيلة مثل والدتها،
 لكنها اليوم بدت هشة. وكان جلدها شاحبًا وكأنه شمعي، وقد يكون ذلك من تأثير لقاءها بكوتلاس. لكن كانت هناك أيضًا هالات تحت عينيها البنيتين الفاتحتين بدت وكأنها موجودة منذ أيام، وربما أسابيع.

توقفت إيفانجلين فجأة قبل أن تعودا إلى الحفل. كانت قد تساءلت سابقًا عن سبب غياب لوك، لكنها الآن شعرت بالخوف من الإجابة. “ماريسول، ما الخطب؟ وأين لوك؟”

هزّت ماريسول رأسها “لا ينبغي أن نتحدث عن هذا الآن. هذا يومكِ السعيد. لا أريد أن أفسده.”

قالت إيفانجلين “لقد صنعتِ لي كعكة وأنقذتِني من ملك الصحف الفضائحية—أعتقد أنكِ البطلة الحقيقية.”

امتلت عينا ماريسول بالدموع، وشعرت إيفانجلين كأن سكينًا تلتف في صدرها.

سألتها بقلق “ما الأمر؟ أخبريني؟”

عضّت ماريسول شفتها “حدث قبل أربعة أسابيع، عندما قررنا، لوك وأنا، أن نحاول الزواج مجددًا.”

تزوجا وهي ما تزال حجرًا؟ هذه المرة، شعرت إيفانجلين وكأن السكين يسيل منها الدم.
 لم يكن يجب أن تؤذيها هذه الأخبار بهذا الشكل. حين لم ترَ لوك في مختبر بويسن أو في حفل الترحيب، ظنت أنه لا يزال يكن لها شيئًا. لكن سماع أنه لم ينوِ حتى أن ينوح عليها، وأنه بعد أسبوعين فقط من تحولها إلى حجر، خطط لزفاف آخر، كان مؤلمًا.

قالت ماريسول “ظننا أننا سنكون بأمان لأن أسبوع الرعب انتهى. لكن في طريقه إلى الزفاف، هاجمه ذئب بري.”

قالت إيفانجلين بذهول “ماذا؟ لحظة—ماذا؟” كانت فاليندا مدينة ساحلية مزدحمة.
 أكبر الحيوانات فيها كانت الكلاب، تليها القطط البرية التي تتجول في الأرصفة. لم تكن هناك ذئاب في فاليندا.

قالت ماريسول بيأس “لا أحد يعرف من أين أتى الذئب. قال الطبيب إنه من المعجزات أن ينجو لوك. لكنني لست متأكدة أنه نجا حقًا. لقد تعرض لتشويه شديد.”

انهارت ساقا إيفانجلين من تحتها. حاولت فتح فمها لتقول إن بقاءه حيًّا كافٍ، لكن أسلوب حديث ماريسول كان يوحي بأنه مات.

قالت ماريسول بصوت مختنق “مرّت أسابيع، ولم يغادر منزله بعد، و—” ثم تقطّعت كلماتها، وبدأت كعكتها ترتعش حتى سقطت منها قطرة من الكريمة على السجادة. “يرفض رؤيتي. أعتقد أنه يظن أنني السبب.”

سألتها إيفانجلين بدهشة “كيف يكون ذاك خطأك؟”

“سمعتِ السيد نايتلينغر. الجميع في فاليندا ينادونني بالعروس الملعونة. زفافان ومأساتان مروعتان في غضون أسابيع. تقول أمي إن هذا ليس أمرًا سيئًا، وأنني مميزة لأنني أول من جذب انتباه الأقدار بعد عودتهم. لكنني أعلم أنني لست كذلك. أنا ملعونة.” وانهمرت الدموع على خدي ماريسول الشاحبين.

حتى تلك اللحظة، كانت إيفانجلين تحاول جاهدة ألا تندم على قراراتها. ربما كان هجوم لوك من قبيل المصادفة، لكن من المرجح أنه لم يكن مجرد عمل ذئب بري. لقد أخبرها جاكس أنه سيوقف الزفاف، ومن الواضح أنه فعل.

لم يكن ينبغي لإيفانجلين أن تعقد صفقة معه.

أرادت أن تلوم جاكس وحده، لكنها كانت مذنبة مثله. عرفت منذ أن رأت التماثيل في الحديقة أنها ارتكبت خطأً. وظنّت أنها أصلحته بتضحيتها، لكنها ما كان يجب أن تطلب مساعدة أمير القلوب من البداية.

 “ماريسول، عليّ أن أخبركِ—” لكن الكلمات التصقت بلسانها. حاولت تحريك فكها لتقول الحقيقة، لكنها كانت خائفة.

كانت ترتجف، كما في اليوم الذي علمت فيه بخطوبة لوك لماريسول. علقت الكلمات في حلقها حين حاولت الحديث مع ماريسول عن لوك. كانت مقتنعة تمامًا أن هناك لعنة. ولا تزال ترغب في تصديق ذلك. لكن إيفانجلين لم تستطع إنكار احتمال أنها كانت مخطئة.

ربما السبب الحقيقي وراء عدم قدرتها على الحديث مع ماريسول عن لوك لم يكن بسبب تعويذة. ربما كان الخوف هو ما شلّ لسانها. ربما، في أعماقها، كانت تخشى أن تكون الحقيقة هي أن لوك لم يكن مخلصًا لها قط.

قالت ماريسول “لا بأس، إيفانجلين. لست مضطرة لقول أي شيء. أنا فقط سعيدة بعودتك!” وضعت كعكتها على أقرب طاولة مذهّبة، واحتضنت إيفانجلين، ذلك العناق الذي لطالما تخيلته كعناق الأخوات الحقيقيات.

وعرفت حينها أنها لا تستطيع قول الحقيقة، ليس اليوم.

لقد قضت إيفانجلين الأسابيع الستة الماضية وحيدة كتمثال حجري. لم تكن مستعدة لتكون وحيدة مجددًا. لكنها ستكون كذلك، إن علم أحدهم بما فعلت.

الفصل الثالث والرابع والخامس

 

اندفعت مشاعر الرعب في عروق إيفانجلين.

طار الذباب، واقترب طائر رمادي—بنفس لون التماثيل الباهت—من إكليل الزهور في شعر ماريسول وبدأ ينقره نقرًا نقرًا نقرًا.

قد لا تكون إيفانجلين وماريسول قريبتين من بعضهما البعض—وربما كانت إيفانجلين أكثر غيرة من أختها غير الشقيقة مما كانت ترغب في الاعتراف به—لكن إيفانجلين لم تكن تريد سوى إيقاف زواجها. لم تكن تريد أن تحوّلها إلى حجر.

كان التنفس مؤلمًا عندما واجهت إيفانجلين تمثال لوك. عادةً ما بدا خفيف الظل وخالي الهم، لكن كتمثال حجري، تجمد وجهه في ملامح من الذعر، وفكه الأملس كان مشدودًا، وعيناه متقلصتان—وتكوّنت تجعيدة بين حاجبيه الحجريين.

كان يتحرك.

انفرجت شفتاه الحجريتان كأنه يحاول التحدث، ليخبرها بشيء—

“خلال دقيقة أخرى، سيتوقف عن التشنج.”

انطلقت نظرات إيفانجلين نحو الجزء الخلفي من المقصورة.

كان جاكس يتكئ باسترخاء على تعريشة مغطاة بأزهار زرقاء بلون سحابة ماطرة، ويعض في تفاحة بيضاء براقة أخرى. بدا كأنه نصف نبيل شاب يشعر بالملل، ونصف إله شرير.

“ماذا فعلت؟” طالبت إيفانجلين.

“بالضبط ما طلبتِه.” أخذ قضمة أخرى من تفاحته. “تأكدت من أن الزفاف لن يتم.”

“عليك أن تُصلح الأمر.”

“لا يمكن.” قالها بنبرة لا مبالية، وكأنه قد ملّ بالفعل من هذه المحادثة. “صديق لي مدين لي بخدمة هو من فعل ذلك. الطريقة الوحيدة لإبطال الأمر هي أن يأخذ أحد مكانهم.” ووجه جاكس نظرة نحو رقعة عشب بجوار المقصورة، حيث كان هناك كأس نحاسي مستقر على جذع شجرة قديم.

اقتربت إيفانجلين من الكأس.

“ماذا تفعلين؟” ابتعد جاكس عن التعريشة، ولم يعد غير مبالٍ، بينما كانت عينا إيفانجلين تحدقان بالكأس.

هل يمكن أن يُصلح كل شيء إذا شربت منه؟

“لا تفكري حتى في ذلك.” تحوّل صوته إلى حاد. “إذا شربتِ هذا وأخذتِ مكانهم، فلن ينقذكِ أحد. ستبقين حجرًا إلى الأبد.”

“لكن لا يمكنني تركهم على هذه الحال.” رغم أن جزءًا من إيفانجلين وافق جاكس. لم تكن تريد أن تصبح تمثالًا في الحديقة. لم تستطع حتى أن تجبر نفسها على التقاط الكأس بينما قرأت الكلمات المحفورة على جانبه:

سُمّ
لا تشربني

انبعثت منه رائحة الكبريت، ولم تكن متأكدة حتى إن كان بمقدورها شرب هذا السائل الكريه. لكن كيف ستعيش مع نفسها إن تركت الجميع تحت هذه اللعنة؟

انتقلت نظرات إيفانجلين من الطائر الذي لا يزال ينقر تاج زفاف ماريسول، إلى لوك وتوسّله المتجمد للمساعدة. كان والداه يقفان على جانبيه. ثم كان هناك القس الذي اختار الزواج الخاطئ ليُشرف عليه. لم تكن إيفانجلين تريد أن تشعر بالسوء تجاه أصدقاء لوك الثلاثة أو تجاه أغنيس. لكن رغم أن والدها لم يتزوج أغنيس بدافع الحب، إلا أنه كان سيكره كل هذا. كلا والديها كانا سيصابان بخيبة أمل كبيرة من أن إيمانها بالسحر قادها إلى هذا المصير.

“لم يكن هذا ما أردتُه.” همست.

“أنتِ تنظرين للأمر من منظور خاطئ، صغيرتي.” رمى جاكس تفاحته نصف المأكولة، وتركها تتدحرج عبر أرض المقصورة حتى اصطدمت بحذاء لوك الحجري. “بمجرد أن تنتشر هذه القصة، سيرغب الجميع في إمبراطورية ميريديان في مساعدتك. ستكونين الفتاة التي فقدت عائلتها بسبب الأقدار الفظيعة. قد لا تحصلي على لوك، لكنكِ ستنسينه قريبًا. ومع كون زوجة أبيكِ وأختكِ غير الشقيقة تحوّلتا إلى حجر، أظن أنكِ سترثين بعض المال. وبحلول صباح الغد، ستكونين مشهورة، ولستِ فقيرة.”

ابتسم جاكس وأظهر غمازتيه كأنه فعلاً قدم لها خدمة.

شعرت إيفانجلين بالغثيان مجددًا.

في القصص، كانت الأقدار آلهة شريرة لا ترغب سوى في الفوضى والخراب. لكن هذا ما كان يجب أن يخشاه الناس حقًا. نظرت إيفانجلين إلى هذه التماثيل البشرية فرأت فيها رعبًا، أما جاكس فرآها مفيدة. لم تكن الأقدار خطيرة لأنها شريرة؛ بل لأنها لا تميز بين الخير والشر.

لكن إيفانجلين كانت تعرف الفرق. وكانت تعرف أيضًا أن هناك أحيانًا منطقة رمادية بين الخير والشر. تلك المنطقة التي ظنت أنها دخلتها ذلك الصباح حين ذهبت إلى كنيسة جاكس لتصلي من أجل أمنية. لكنها ارتكبت خطأ، وحان الوقت لإصلاحه.

التقطت إيفانجلين الكأس.

“ضعيه،” حذرها جاكس. “أنتِ لا ترغبين في هذا. لا تريدين أن تكوني البطلة، بل تريدين النهاية السعيدة—لهذا جئتِ إلي. إذا فعلتِ هذا، فلن تحصلي على تلك النهاية أبدًا. الأبطال لا يحصلون على النهايات السعيدة. إنهم يمنحونها للآخرين. هل هذا ما تريدينه حقًا؟”

“أريد أن أنقذ الفتى الذي أحبه. وعليّ أن آمل أنه سيقرر إنقاذي أيضًا.” وقبل أن يتمكن جاكس من إيقافها، شربت إيفانجلين.

كان طعم السمّ أسوأ من رائحته—كطَعم عظام محترقة وأمل مفقود. انغلق حلقها وهي تكافح لتتنفس ثم لتتحرك.

ظنت أنها رأت جاكس يهز رأسه، لكن من الصعب التأكد. كانت رؤيتها تتلاشى. عروق سوداء بدأت تملأ الحديقة، تنتشر مثل الحبر الهارب. ظلام، ظلام في كل مكان. ليل بلا قمر أو نجوم.

حاولت إيفانجلين أن تقنع نفسها بأنها فعلت الصواب. لقد أنقذت تسعة أشخاص. أحدهم سينقذها هي أيضًا.

“لقد حذّرتكِ،” تمتم جاكس. سمعت تنهده المليء بالإحباط، وسمعته يتمتم بكلمة “يا للأسف.”
ثم…

لم تعد تسمع شيئًا.

على الأقل، لا تزال إيفانجلين تملك القدرة على التفكير.
رغم أن هذه القدرة كانت تؤلمها أحيانًا.
كان ذلك يحدث غالبًا بعد أيام من العدم المطلق، حين تتخيل أنها شعرت بشيء ما أخيرًا.
لكن ذلك الشيء لم يكن أبدًا ما تريده حقًا. لم يكن دفئًا يلامس بشرتها، أو وخزًا في أطراف أصابع قدميها، أو لمسة من شخص آخر تخبرها بأنها ليست وحيدة تمامًا في هذا العالم.
كان غالبًا مجرد سهم منكسِر من الحزن، أو وخزة ندم.

وكان الندم هو الأسوأ.

الندم كان بطعمه الحامض والمر، وكان قريبًا جدًا من الحقيقة لدرجة أنها كانت تضطر لمقاومة
 الغرق فيه.
كانت مضطرة لخوض معركة داخلية ضد تصديق أن جاكس كان على حق —
 وأنه كان يجب أن تترك الكأس وشأنه، أن تدع الآخرين يبقون متجمدين في هيئتهم الحجرية، وأن تلعب دور الضحية.

لكن جاكس كان مخطئًا.

لقد فعلت الصواب.

شخصٌ ما سينقذها.

وأحيانًا، عندما تكون مشاعر الأمل قوية فيها، كانت إيفانجلين تظن حتى أن جاكس نفسه قد يأتي لإنقاذها.
لكن، ورغم كل أملها، كانت تعرف أن أمير القلوب ليس مخلّصًا.
بل هو الشخص الذي يحتاج الآخرون إلى الخلاص منه.


ثم… شعرت إيفانجلين بشيء لم يكن حزنًا أو ندمًا.

الفصل الثاني


أخذ أمير القلوب قضمة أخيرة من تفاحته قبل أن تسقط على الأرض وتتناثر قطرات
حمراء على كل شيء.
“الناس الذين لا يحبونني ينادونني جاكس.”

كانت إيفانجلين تود أن تقول إنها لا تكرهه، وأنه دائمًا ما كان قدرها المفضل. لكن هذا لم يكن أمير القلوب العاشق الذي تخيلته. لم يكن جاكس يبدو كأن قلبًا مكسورًا قد اتخذ هيئة بشر.

هل كان كل هذا مجرد مزحة قاسية؟ كان يُفترض أن الفيتات قد اختفوا من العالم منذ قرون. ومع ذلك، فإن كل ما كان يرتديه جاكس – من ربطة العنق المفكوكة إلى حذائه الجلدي الطويل – كان من أحدث صيحات الموضة.

تجولت عيناها داخل الكنيسة البيضاء وكأن أصدقاء لوك قد يظهرون في أي لحظة ليسخروا منها. لوك كان الابن الوحيد لرجل نبيل، وعلى الرغم من أنه لم يتصرف يومًا وكأن لذلك أهمية أمام إيفانجلين، إلا أن الشبان الذين كان يرافقهم اعتبروا إيفانجلين دون مستواهم. كان والدها يملك عدة متاجر في فاليندا، لذا لم تكن فقيرة أبدًا، لكنها لم تكن من طبقة لوك العليا.

“إذا كنت تبحثين عن طريق الخروج لأنك عدتِ إلى صوابك، فلن أمنعك.” شبك جاكس يديه خلف رأسه الذهبي، واتكأ على تمثال نفسه وابتسم.

انكمش بطنها في تحذير داخلي، يحذرها ألا تنخدع بابتسامته المغرية أو ملابسه الممزقة. لقد كان أخطر كائن قابلته في حياتها.

لم تتخيل أن يقتلها — لم تكن حمقاء بما يكفي لتسمح لأمير القلوب بتقبيلها. لكنها كانت تعلم أنه إن بقيت وأبرمت صفقة معه، فسيدمر جزءًا آخر من روحها إلى الأبد. ومع ذلك، إن غادرت، فلن يكون هناك أي أمل في إنقاذ لوك.

“ما ثمن مساعدتك لي؟”

“هل قلتُ إنني سأساعدك؟” انزلقت عيناه إلى شرائط الحرير الكريمية التي تتصاعد من حذائها وتلتف حول كاحليها ثم تختفي تحت طرف فستانها المطرز. كان أحد فساتين والدتها القديمة، مغطى برسوم مطرزة من شوك بنفسجي باهت وزهور صفراء صغيرة وثعالب صغيرة.

التوت زاوية فم جاكس باشمئزاز، وبقيت كذلك بينما صعد بنظره إلى خصلات شعرها التي لفّتها بعناية باستخدام مكواة ساخنة ذلك الصباح.

حاولت إيفانجلين ألا تشعر بالإهانة. فمن تجربتها القصيرة مع هذا القدر الخالد، لم تتوقع منه أن يُعجب بأي شيء.

“ما لون هذا الشعر؟” لوّح بيده نحو خصلاتها.

“ذهبي وردي.” أجابت بابتسامة مشرقة. لم تكن إيفانجلين تسمح لأي أحد أن يجعلها تشعر بالسوء بشأن لون شعرها الغريب. كانت زوجة أبيها دائمًا تحاول إجبارها على صبغه باللون البني. لكن شعرها، بخصلاته الوردية الناعمة المتشابكة بخيوط ذهبية باهتة، كان أكثر ما تحبه في مظهرها.

أمال جاكس رأسه وهو لا يزال يحدق فيها بعبوس. “هل وُلدتِ في إمبراطورية ميريديان أم في الشمال؟”

“ما أهمية ذلك؟”

“فضول فقط.”

قاومت إيفانجلين رغبتها في الرد عليه بعبوس مماثل. عادةً ما كانت تحب الإجابة عن هذا السؤال. والدها، الذي كان يحب أن يجعل حياتها كأنها حكاية خرافية، كان يمازحها دائمًا بأنه وجدها معبأة في صندوق شحن مع باقي التحف الغريبة التي وصلته إلى متجره — ولهذا كان شعرها وردي كجنيات القصص، على حد قوله. وكانت والدتها تومئ برأسها وتغمز كل مرة.

كانت تفتقد طريقة والدتها في الغمز، وافتقدت مداعبات والدها. افتقدتهما بكل ما فيهما، لكنها لم تكن ترغب في أن تشارك أي جزء منهما مع جاكس.

اكتفت بهز كتفيها دون إجابة.

قطب جاكس حاجبيه. “ألا تعرفين أين وُلدتِ؟”

“هل هذا شرط لتساعدني؟”

أعاد النظر إليها، لكن هذه المرة ركز على شفتيها. ومع ذلك، لم يكن ينظر إليهما وكأنه يرغب في تقبيلها. كانت نظرته تحليلية أكثر من ان تكون عاطفية، كأن شفتيها مجرد بضاعة تُعرض في أحد متاجر والدها، وكأنها شيء يمكن امتلاكه.

“كم عدد من قبلتِهم؟” سأل.

ضربها تيار صغير من الحرارة في عنقها. لقد عملت في متجر والدها الغريب منذ أن كانت في الثانية عشرة. لم تكن نشأتها كفتاة مهذبة على الطريقة التقليدية؛ لم تكن مثل أختها غير الشقيقة، التي تعلمت أن تحافظ على مسافة ثلاثة أقدام من أي رجل وألا تتحدث في شيء أكثر جدلًا من الطقس. شجعها والداها على الفضول والمغامرة والود، لكنها لم تكن جريئة في كل شيء. وكانت هذه إحدى اللحظات التي أشعرتها بالتوتر — الطريقة التي كان بها أمير القلوب يحدق في شفتيها.

“لقد قبلتُ لوك فقط.”

“هذا مثير للشفقة.”

“لوك هو الوحيد الذي أريد تقبيله.”

حك جاكس فكّه الحاد، مشككًا. “يكاد يُقنعني كلامك.”

“ولماذا أكذب؟”

“الجميع يكذب — يظنون أنني سأساعدهم أكثر إن ظننت أنهم يسعون وراء شيء نبيل كالحب الحقيقي.” تسلل نبرة ازدراء إلى صوته، لتقوّض أكثر من الصورة التي كانت إيفانجلين تتخيلها عن أمير القلوب. “لكن حتى إن كنتِ تحبين هذا الصبي حقًا، فأنتِ أفضل حالًا بدونه. لو كان يحبك فعلًا، لما كان سيتزوج من فتاة أخرى. انتهى الكلام.”

“أنت مخطئ.” كان صوتها يحمل نفس قناعة قلبها. لقد تساءلت إيفانجلين مرارًا عن علاقتها بلوك بعد خطوبته المفاجئة من ماريسول، لكن الإجابة كانت دائمًا في الذكريات المشتركة. ليلة وفاة والدها – حين كان قلبها يئن بالألم – وجدها لوك تتجول في أروقة متجر التحف، تبحث عن علاج للقلوب المكسورة. كانت خدودها مبللة بالدموع، وعيناها حمراوين. خشيت أن يبث الحزن فيه الرعب، لكنه احتضنها وقال، “لا أعرف إن كنت قادرًا على إصلاح قلبك المكسور، لكن يمكنكِ أخذ قلبي، لأنه لكِ بالفعل.”

كانت تعلم أنها تحبه منذ فترة، لكنها في تلك اللحظة أيقنت أنه يحبها أيضًا. قد تكون كلماته مقتبسة من قصة مشهورة، لكنه أثبتها بأفعال صادقة. ساعدها على لملمة قلبها في تلك الليلة، والعديد من الليالي التي تلتها. والآن، حان دورها لتساعده. الخطوبة لا تعني الحب دائمًا، لكن لحظات كهذه لا تكذب.

لابد أنه ملعون. قد يبدو هذا مبالغًا أو سخيفًا للبعض، لكنه التفسير الوحيد الذي استطاعت تصديقه. لم يكن منطقيًا ألا يكلمها، أو أن كلما حاولت إخبار ماريسول بالحقيقة، تعجز عن النطق.

“أرجوك.” لم يكن التوسل دون كرامتها. “ساعدني.”

“لا أظن أن ما تريدينه سيساعدك. لكني أحب القضايا الخاسرة.” عينا جاكس لمعتا بتسلية بينما عاد يحدق في شفتيها.
“سأوقف الزواج مقابل ثلاث قبلات.”

صعدت حمرة جديدة إلى وجه إيفانجلين. لقد كانت مخطئة، إنه يريد تقبيلها. لكن إن كانت القصص صحيحة، فقُبلة واحدة منه كفيلة بقتلها.

ضحك جاكس ضحكة قصيرة قاسية.
“اهدئي، عزيزتي، لا أرغب في تقبيلك. هذا سيقتلك، وحينها ستكونين عديمة الفائدة لي. أريدك أن تُقبّلي ثلاثة أشخاص آخرين. من أختاره، وفي الوقت الذي أختاره.”

“أي نوع من القبلات؟ مجرد لمسة سريعة… أم أكثر؟”

“إذا كنتِ تظنين أن لمسة صغيرة تكفي، فربما لم تُقبّلي أحدًا أصلًا.”
دفع جاكس عن التمثال وتقدم ناحيتها، ليعلوها مرة أخرى بظله.
“ليست قُبلة حقيقية إن لم يكن فيها لسان.”

احمرّ وجهها بحرارة لم تستطع السيطرة عليها، حتى شعرت أن عنقها وخديها وشفتيها مشتعلة.

“ما سبب التردد، عزيزتي؟ إنها مجرد قبلات.” بدا وكأنه يكتم ضحكة أخرى.
“إما أن لوك لا يعرف استخدام فمه جيدًا، أو أنكِ خائفة من قول نعم بسرعة لأن جزءًا منكِ يعجبه الأمر سرًا.”

” لا يعجبني هذا الطلب “

” إذًا، لوك مُقبِّل فظيع؟ “

” لوك يقبِّل بشكل ممتاز! “

” وكيف تعرفين ذلك إن لم يكن لديك شيء تقارنينه به؟ إن انتهى بك الأمر مع لوك، قد تتمنين لو أنني طلبت منك تقبيل أكثر من ثلاثة أشخاص. “

” لا أريد تقبيل غرباء—الشخص الوحيد الذي أريده هو لوك. “

” إذًا يجب أن يكون هذا ثمناً بسيطاً تدفعينه “، قال جاكس بنبرة خالية من المشاعر.

كان محقًا، لكن إيفانجلين لم تستطع الموافقة ببساطة. لقد علمها والدها أن الأقدار لا تحدد المستقبل كما يوحي اسمها، بل تفتح أبواباً نحو احتمالات جديدة. لكن الأبواب التي يفتحها الأقدار لا تقود دومًا إلى حيث يتوقع الناس، بل تقودهم غالبًا إلى صفقات يائسة جديدة لإصلاح صفقاتهم الأولى السيئة. حدث هذا في عدد لا يحصى من القصص، ولم تكن إيفانجلين تريد أن تكون قصتها واحدة منها.

 ” لا أريد أن يموت أحد ”  ” لا يمكنك إيقاف الزواج عن طريق تقبيل أي شخص هناك. “

بدت خيبة الأمل على جاكس. ” ولا حتى أختك غير الشقيقة؟ “

” كلا! “

رفع أصابعه إلى فمه وبدأ يعبث بشفته السفلى، مخفيًا نصف تعبيرٍ بدا وكأنه مزيج من الانزعاج أو التسلية. ” أنتِ لستِ في موقع يُمكّنك من التفاوض. “

” كنت أظن أن الأقدار تحب الصفقات؟ ” تحدّته.

” فقط عندما نضع نحن القواعد. ومع ذلك، أنا في مزاج جيد، لذا سأمنحك هذا الطلب. أريد فقط معرفة شيء واحد أخير. كيف دخلتِ من الباب؟ “

” طلبتُ منه بلُطف.”

فرك جاكس زاوية ذقنه. ” هذا كل شيء؟ لم تجدي مفتاحاً؟ “

” لم أر حتى ثقب مفتاح “، أجابت بصدق.

توهّج شيء يشبه النصر في عيني جاكس، ثم أمسك بمعصمها ورفعه إلى فمه البارد.

” ماذا تفعل؟ ” شهقت.

” لا تقلقي، لن أقبلك ” مرّت شفتاه على الجهة الداخلية الرقيقة من معصمها. مرة. مرتين. ثلاث مرات. كانت لمسة بالكاد تُحسب، ومع ذلك، كانت شديدة الخصوصية. جعلتها تفكر في القصص الأخرى التي تقول إن قُبَلاته قد تكون قاتلة، لكنها تستحق الموت من أجلها. فمه البارد انساب ببطء ونعومة فوق نبضها المتسارع، مخملياً ورقيقاً و—غرس أنيابه الحادة في جلدها.

صرخت ” لقد عضضتني! “

” اهدئي، يا دُميتي، لم أُخرج قطرة دم ” عينيه أصبحتا أكثر بريقًا بينما ترك ذراعها.

مرّت بأصابعها على الجلد الحساس حيث غرس أنيابه، فوجدت ثلاث ندوب بيضاء رفيعة، على شكل قلوب مكسورة صغيرة، تزيّن الجهة الداخلية من معصمها. واحدة لكل قُبلة.

قالت وهي ترفع عينيها ” متى—”

لكن أمير القلوب كان قد اختفى بالفعل. لم تره حتى يخرج؛ كل ما سمعته كان صوت الباب يُغلق بشدة.

لقد حصلت على ما تريده.

فلماذا لم تشعر بالتحسن؟

لقد فعلت الشيء الصحيح. لوك يحبها. لم تصدق أنه سيتزوج ماريسول بإرادته. ليس لأن إيفانجلين تكره ماريسول، بل إنها بالكاد تعرفها في الحقيقة. بعد عام تقريبًا من وفاة والدتها، قرر والدها فجأة أنه يجب أن يتزوج مرة أخرى، وأنه بحاجة إلى زوجة تعتني بإيفانجلين في حال حدث له شيء. ما زالت تتذكر القلق الذي حلّ مكان البريق في عينيه، وكأنه كان يعلم أنه لا يملك الكثير من الوقت.

لم يمضِ على زواجه من أغنيس سوى ستة أشهر قبل أن يتوفى. وخلال تلك الفترة، لم تدخل ماريسول متجر التحف الذي كانت إيفانجلين تقضي فيه معظم وقتها. كانت تقول إنها مصابة بحساسية من الغبار، لكنها كانت تتصرف بخوف من أي شيء غير مألوف، لذلك كانت إيفانجلين تظن أن أختها غير الشقيقة كانت في الواقع تخشى اللعنات وما هو خارق للطبيعة. بينما إيفانجلين ولوك كانا يمازحان بعضهما بأنهما إذا تعرّضا للعنة يومًا ما، فذلك سيثبت فقط أن السحر موجود.

كان من المُحزن بطريقة ساخرة أن إيفانجلين باتت تملك هذا الدليل الآن، لكنها لم تعد تملك لوك.

حتى لو عاد جاكس وسمح لها بتغيير رأيها، ما كانت لتفعل. لقد قال إنه سيوقف الزواج، ووعد بألا يقتل أحدًا.

ومع ذلك… لم تستطع التخلص من الشعور بأنها ارتكبت خطأ. لم تشعر أنها وافقت بسرعة كبيرة، لكنها لم تستطع نسيان اللمعان الذي رقص في عيني جاكس حين أمسك بمعصمها.

بدأت إيفانجلين بالركض.

لم تكن تعرف ماذا ستفعل، أو لماذا شعرت فجأة بالغثيان داخليًا. كل ما تعرفه أنها بحاجة للتحدث إلى جاكس مرة أخرى قبل أن يوقف الزواج.

لو كانت في كنيسة عادية، ربما كانت لَحقَت به بسرعة. لكن هذه كانت كنيسة مُقدّسة للأقدار، تحرسها بوابة سحرية تبدو وكأن لها عقلًا خاصًا بها. عندما فتحتها، لم تُعدها إلى حي المعابد، بل ألقتها داخل صيدلية قديمة تفوح منها رائحة العفن، مليئة بالغبار العائم، والزجاجات الفارغة، والساعات التي تصدر صوتاً.

تيك. توك. تيك.
توك. تيك. توك.

لم تمر الثواني بهذه السرعة من قبل. بين كل تيك و توك، اختفى الباب السحري الذي دخلت منه واستُبدل بشباك حديدي يُطل على صفٍ من الشوارع المعوجّة كأنها أسنان ملتوية. كانت في حي التوابل—على الجانب الآخر تمامًا من المدينة، بعيدًا عن مكان زفاف لوك وماريسول.

لعنت إيفانجلين وهي تهرب.

بحلول الوقت الذي عبرت فيه المدينة ووصلت إلى منزلها، كانت تخشى أنها قد تأخرت بالفعل.

كان من المفترض أن يتبادل ماريسول ولوك عهودهما في حديقة والدتها، داخل الجَزِيبُو الذي بناه والدها. في الليل، كانت تصدح فيه موسيقى صادرة عن صراصير الليل، وفي النهار، كانت الطيور تزقزق من حوله. كانت تسمع جميع تلك الأنغام الصغيرة الآن وهي تدخل الحديقة، لكنها لم تسمع أي أصوات بشرية. كانت هناك فقط الطيور الصغيرة، ترفرف بمرح عبر الجزيبو قبل أن تحط على مجموعة من التماثيل الجرانيتية.

انحنت رُكبَتا إيفانجلين من الصدمة.

لم يكن هناك تماثيل في الحديقة من قبل. لكن هناك تسعة الآن، جميعهم يحملون كؤوسًا كما لو أنهم أنهوا نخبًا لتوّهم. كل وجه بدا نابضًا بالحياة بشكل مقلق، ومألوفًا بشكل مرعب.

راقبت إيفانجلين باشمئزاز ذبابة تحط على وجه تمثال يشبه أغنيس، قبل أن تطير لتحط على عين ماريسول المصنوعة من الجرانيت.

لقد أوقف جاكس الزواج… بتحويل الجميع إلى حجر.



الفصل الاول

________________________

صحيفة الهمسات

إلى أين سيصلي أصحاب القلوب المكسورة الآن؟

بقلم: كتلاس نايتلينغر

لقد اختفى باب كنيسة أمير القلوب. كان الباب مطليًا بأحمر قانٍ يشبه لون القلوب المحطمة، وكان مدخلًا شهيرًا لأحد أكثر الكنائس زيارةً في حي المعابد. لكنه ببساطة اختفى خلال الليل، تاركًا وراءه جدارًا من الرخام لا يمكن اختراقه. وأصبح من المستحيل الآن على أي أحد دخول الكنيسة—
________________________

دفعت إيفانجلين الصحيفة القديمة ذات الأسبوعين إلى جيب تنورتها المزينة بالزهور. كان الباب في نهاية هذا الزقاق المتداعي بالكاد أطول منها، ومخبأً خلف شبكة معدنية متصدئة بدلاً من أن يكون مغطى بطلاء أحمر قاني جميل، لكنها كانت لتراهن بمتجر والدها للتحف الغريبة أن هذا هو الباب المفقود.

لم يكن هناك شيء في حي المعابد بهذا القبح. كل مدخل هنا كان مزيّناً بألواح منقوشة، وكُسوات زخرفية، وواقيات زجاجية، وفتحات أقفال مذهبة. كان والدها رجلاً مؤمناً، لكنه اعتاد أن يقول إن الكنائس هنا مثل مصاصي الدماء—لم تُصمَّم للعبادة، بل للإغراء والإيقاع بالناس. لكن هذا الباب كان مختلفًا. كان مجرد لوح خشبي خشن بلا مقبض، وطلاؤه الأبيض متقشر.

هذا الباب لم يكن يريد أن يُعثَر عليه.

ومع ذلك، لم يستطع أن يخفي حقيقته عن إيفانجلين.

كان شكله المتعرج لا يُخطئ: جانب منه منحني، والآخر مشقوق بأسنان حادة، يشكلان معًا نصف قلب مكسور—رمز الأمير المصيري للقلوب.

أخيرًا.

لو كانت الآمال أجنحة، لكانت أجنحة إيفانجلين قد امتدت خلفها، متلهفة للتحليق من جديد. بعد أسبوعين من البحث في مدينة فاليندا، وجدته.

عندما أعلنت صحيفة الهمسات التي في جيبها لأول مرة أن باب كنيسة أمير القلوب قد اختفى، لم يتخيل الكثيرون أنه سحر. كانت المقالة الأولى للصحيفة، وقال الناس إنها خدعة لبيع الصحيفة. الأبواب لا تختفي ببساطة.

لكن إيفانجلين كانت تؤمن بأنها قد تختفي. لم تشعر أن القصة كانت مجرد حيلة؛ بل شعرت بأنها إشارة، تخبرها أين تبحث إن أرادت أن تنقذ قلبها—والفتى الذي ينتمي إليه.

قد لا تكون قد رأت الكثير من الأدلة على السحر خارج الأشياء الغريبة في متجر والدها، لكن إيمانها بوجوده كان راسخًا. كان والدها، مكسيميليان، يتحدث عن السحر كما لو كان حقيقيًا. ووالدتها كانت من الشمال الرائع، حيث لا فرق بين الحكايات الخرافية والتاريخ. “كل القصص مزيج من الحقيقة والكذب،” كانت تقول. “ما يهم هو الطريقة التي نؤمن بها.”

وكان لدى إيفانجلين موهبة في الإيمان بأشياء يعتبرها الآخرون خرافات—مثل الأقدار الخالدة.

فتحت الشبكة المعدنية. لم يكن للباب نفس المقبض، مما اضطرها إلى إدخال أصابعها في الفراغ الضيق بين حافته المسننة والجدار الحجري المتسخ.

خدش الباب أصابعها، وسال منها قطرة دم، وأقسمت أنها سمعت صوته الخشبي المشقق يقول:
“هل تعلمين ما الذي أنتِ على وشك الدخول إليه؟ لن تجدي سوى انكسار القلب هنا.”

لكن قلب إيفانجلين كان مكسورًا بالفعل. وكانت تفهم المخاطر التي كانت تُقدم عليها. لقد عرفت قواعد زيارة كنائس الأقدار:

  • وعدي بأقل مما يمكنك تقديمه، لأن الأقدار تأخذ دائمًا أكثر.

  • لا تعقدي صفقات مع أكثر من قَدَر واحد.

  • وفوق كل شيء، لا تقعي في حب أحد الأقدار.

كان هناك ستة عشر قدرًا خالداً، وكانوا كائنات غيورة ومتملكة. وقبل أن يختفوا منذ قرون، كان يُقال إنهم حكموا جزءًا من العالم بسحرٍ كان رائعًا بقدر ما هو خبيث. لم يسبق لهم أن نكثوا بصفقة، لكنهم كثيرًا ما ألحقوا الأذى بمن ساعدوهم. ومع ذلك، فإن أغلب الناس—حتى لو ظنوا أن الأقدار مجرد أساطير—كانوا يصلون إليهم في لحظة اليأس.

لطالما كانت إيفانجلين فضولية بشأن كنائسهم، لكنها كانت تعرف ما يكفي عن طبيعة الأقدار المتقلبة وصفقاتهم الغامضة لتتجنب أماكن عبادتهم. حتى قبل أسبوعين، حين أصبحت واحدة من أولئك الأشخاص اليائسين الذين تحذرهم القصص دومًا.

“أرجوك،” همست إلى الباب الذي على شكل قلب، حاشدة في صوتها كل الأمل الجامح والمجروح الذي قادها إلى هنا.
“أعلم أنك مخلوق ذكي. لكنك سمحت لي بأن أعثر عليك. فدعني أدخل.”

شدّت الباب دفعة أخيرة.

وهذه المرة، انفتح الباب.

تسارَع نبض إيفانجلين وهي تخطو أولى خطواتها. خلال بحثها عن الباب المفقود، قرأت أن كنيسة أمير القلوب تحمل لكل زائر رائحة مختلفة. كان يُقال إنها تفوح برائحة أعظم انكسار عاطفي للزائر.

لكن حين دخلت إيفانجلين الكاتدرائية الباردة، لم تذكّرها الرائحة بلوك(حبيبها الذي كسر قلبها) لم تكن هناك لمحات من الجلد المدبوغ أو نبتة الفيتيفر.
بل كان الهواء المعتم داخل الكنيسة ذا رائحة حلوة ومعدنية قليلاً مثل رائحة التفاح والدم.

غمر القشعريرة ذراعيها.
هذه الرائحة لم تكن تُشبه الصبي الذي تُحبه. لا بد أن الرواية التي قرأتها كانت خاطئة. لكنها لم تستدر لتعود. كانت تعرف أن الأقدار ليسوا قديسين أو مخلّصين، وإن كانت تأمل أن يكون أمير القلوب أكثر إحساسًا من الباقين.

تقدّمت أكثر إلى داخل الكاتدرائية. كل شيء كان أبيضًا بشكل صادم. سجاد أبيض، شموع بيضاء، مقاعد صلاة من خشب البلوط الأبيض، والحور الأبيض، والبتولا الأبيض المتقشر.

مرت إيفانجلين بمقعد تلو الآخر من المقاعد البيضاء غير المتناسقة. ربما كانت أنيقة في السابق، لكن كثيرًا منها الآن فقد إحدى أرجلها، أو كانت وسائدها ممزقة، أو قد انقسمت إلى نصفين.

مكسور.
مكسور.
مكسور.

لا عجب أن الباب لم يرغب في السماح لها بالدخول. ربما لم تكن هذه الكنيسة شريرة… بل كانت حزينة.

ثم شقّ تمزيقٌ خشن سكون الكنيسة.

استدارت إيفانجلين بسرعة وكتمت شهقة.

على بعد عدة صفوف خلفها، في زاوية مظلّلة، بدا شاب وكأنه في حالة حداد، أو يؤدي طقس توبة. خصلات شعر ذهبي فوضوية غطّت وجهه بينما كان ينحني، وأصابعه تمزّق أكمام معطفه الكستنائي.

شعرت إيفانجلين بوخزة في قلبها وهي تراقبه. أغراها أن تسأله إن كان يحتاج المساعدة. لكنه على الأرجح اختار تلك الزاوية ليبقى بعيدًا عن الأنظار.

ولم يكن لديها وقت كثير.

لم تكن هناك ساعات في الكنيسة، لكن إيفانجلين أقسمت أنها سمعت دقات عقرب الثواني، وكأنها تمحو الدقائق الثمينة المتبقية قبل زفاف لوك.

أسرعت عبر الممر الرئيسي نحو الحنية، حيث توقفت صفوف المقاعد المحطمة، وارتفعت منصة من الرخام اللامع أمامها.
كانت المنصة نقية، مضاءة بجدار من شموع شمع العسل، ومحاطة بأربعة أعمدة مخددة، تحرس تمثالاً بحجم هائل لأمير القلوب المصيري.

وخزٌ خفيفٌ لسع مؤخرة عنقها.

كانت إيفانجلين تعرف تمامًا كيف يُفترض أن يبدو شكله. لقد أصبحت بطاقات المصير — التي تستخدم صور الفيتات لقراءة الطالع — منتجًا شائعًا مؤخرًا في متجر والدها للغرائب. وكانت بطاقة أمير القلوب ترمز إلى الحب غير المتبادل، ودائمًا ما تُصوّره على أنه وسيم بصورة مأساوية، بعينين زرقاوين لامعتين تذرفان دموعًا بلون الدم، تطابق البقعة الدامية التي تلطخ زاوية فمه المتجهم.

لم تكن هناك دموع دموية على هذه التمثال المتوهج. لكن وجهه اتسم بجمالٍ لا يرحم، من النوع الذي كانت إيفانجلين تتوقعه من نصف إله يملك القدرة على القتل بقبلة واحدة. شفتا الأمير الرخاميتان التوتا في ابتسامة جانبية مثالية، كان يُفترض أن تبدو باردة وقاسية وحادة، لكنها احتوت على لمحة من النعومة في الشفة السفلى الأكثر امتلاءً—كانت تبرز قليلاً، كدعوة قاتلة.

ووفقًا للأساطير، لم يكن أمير القلوب قادرًا على الحب، لأن قلبه توقف عن النبض منذ زمن بعيد. وكانت هناك فتاة واحدة فقط قادرة على إعادته للحياة: حبه الحقيقي الوحيد. قالوا إن قبلته قاتلة للجميع ما عداها—وهي نقطة ضعفه الوحيدة—وحين كان يبحث عنها، خلّف وراءه دربًا من الجثث.

لم تستطع إيفانجلين أن تتخيل وجودًا أكثر مأساوية من هذا. وإن كان هناك قدر/كائن خالد واحد يمكن أن يتعاطف مع وضعها، فسيكون أمير القلوب.

توقفت نظراتها عند أصابعه الرخامية الأنيقة، التي كانت تقبض على خنجر بحجم ساعدها. كان النصل موجهًا نحو وعاء حجري للتقديم، موضوع فوق موقد صغير، تعلوه دائرة منخفضة من لهب أبيض راقص. نُقشت على جانب الوعاء عبارة: “دم مقابل صلاة.”

تنفّست إيفانجلين بعمق.

هذا هو السبب الذي جاءت من أجله.

ضغطت بإصبعها على طرف النصل. اخترق الرخام الحاد جلدها، وسقطت قطرات من دمها، تصدر أزيزًا وهمسًا، تنبعث منها رائحة معدنية حلوة.

جزءٌ منها تمنى أن يؤدي هذا القربان إلى عرض سحريٍ ما. أن يتحرك التمثال، أو أن يملأ صوت أمير القلوب أرجاء الكنيسة. لكن لم يتحرك شيء، سوى لهيب الشموع. لم تكن تسمع حتى الشاب الحزين في مؤخرة الكنيسة. فقط هي والتمثال.

قالت بتردد
“أيها الأمير العزيز…”
لم يسبق لها أن صلّت لقدر خالد من قبل، ولم ترد أن تخطئ في ذلك.
“أنا هنا لأن والديّ ماتا.”

تشنّج وجهها. لم يكن هذا هو المدخل المناسب.

“ما أقصده هو أن والديّ توفيا. فقدتُ والدتي قبل عامين، ثم فقدت والدي في الموسم الماضي. والآن، أنا على وشك أن أفقد الفتى الذي أحبه.

لوك نافارو…”
انسدّ حلقها حين نطقت اسمه وتخيلت ابتسامته المائلة. ربما لو كان أقل وسامة، أو أفقر، أو أكثر قسوة، لما حدث كل هذا.
“كنا نرى بعضنا سرًّا. كان من المفترض أن أكون في حداد على والدي. ثم، قبل أسبوعين تقريبًا، في اليوم الذي كنا سنخبر فيه عائلتينا أننا نحب بعضنا، أعلنت أختي غير الشقيقة، ماريسول، أنها هي ولوك سيتزوجان.”

توقفت إيفانجلين وأغمضت عينيها. هذا الجزء لا يزال يُدوّخها. لم تكن الخطوبة السريعة أمرًا غريبًا. ماريسول كانت جميلة، ورغم تحفظها، إلا أنها كانت طيبة—أكثر طيبة من والدتها، أغنيس. لكن إيفانجلين لم ترَ لوك قطّ في نفس الغرفة مع ماريسول.

“أعلم كيف يبدو الأمر، لكن لوك يحبني. أعتقد أنه تعرّض للعنة. لم يتحدث إليّ منذ إعلان الخطوبة—لا يريد حتى رؤيتي. لا أعرف كيف فعلت ذلك، لكني متأكدة أن والدتي زوجة أبي هي السبب.”

لم يكن لدى إيفانجلين دليل فعليّ على أن أغنيس ساحرة، أو أنها ألقت لعنة على لوك، لكنها كانت واثقة من أنها علمت بعلاقتها به، وأرادت لوك، واللقب الذي سيرثه يومًا ما، لابنتها.

“منذ وفاة والدي، وأغنيس تكرهني. حاولت التحدث إلى ماريسول عن لوك. وعلى عكس والدتها، لا أعتقد أن ماريسول كانت ستؤذيني عمدًا. لكن كلما حاولت التحدث، تعجز كلماتي عن الخروج، وكأنها أيضًا تحت لعنة. لذلك أنا هنا، أتوسل إليك أن تساعدني. الزفاف اليوم، وأحتاج منك أن توقفه.”

فتحت إيفانجلين عينيها.

التمثال الجامد لم يتغير. كانت تعلم أن التماثيل لا تتحرك عادة. ومع ذلك، لم تستطع منع نفسها من التفكير أنه كان عليه أن يفعل شيئًا—أن يتزحزح، أو يتكلم، أو يحرك عينيه الرخاميتين.
“أرجوك، أعلم أنك تفهم وجع القلب. امنع لوك من الزواج بماريسول. أنقذ قلبي من أن يتحطم مجددًا.”

“يا لها من خطبة بائسة.”
تبع ذلك صوت تصفيق بطيء، صادر من جهة قريبة جدًا.

استدارت إيفانجلين بسرعة، وقد فرّ الدم من وجهها. لم تكن تتوقع أن تراه—ذلك الشاب الذي كان يمزق ملابسه في مؤخرة الكنيسة. رغم أن من الصعب تصديق أنه نفس الشخص. ظنّت أنه كان غارقًا في الحزن، لكنه ربما انتزع ألمه مع أكمام سترته، التي أصبحت الآن ممزقة ومتدلية فوق قميص مخطط بالأبيض والأسود، مدسوس بنصفه في سرواله.

كان جالسًا على درجات المنصة، متكئًا بتكاسل على أحد الأعمدة، وساقاه الطويلتان ممدودتان أمامه. شعره ذهبي ومبعثر، عيناه الزرقاوان المشرقتان محمرّتان، وفمه يرتجف عند الزاوية وكأنه لا يستمتع بشيء، لكنّه وجد متعة خبيثة في الألم الصغير الذي سببه لها للتو. بدا ثريًا، وساخرًا، وقاسيًا.

“هل تودّين أن أنهض وأدور لتتأملي بقية هيئتي؟” سخر منها.

احمرّ وجه إيفانجلين على الفور.
“نحن في الكنيسة.”

“وما علاقة ذلك بأي شيء؟”
بحركة أنيقة، أخرج من الجيب الداخلي لسترته الممزقة تفاحة بيضاء ناصعة، وقضم منها قضمة.
قطرات عصير حمراء داكنة تقطرت من الثمرة إلى أصابعه الشاحبة الطويلة، ثم إلى درجات الرخام النقية.

“لا تفعل ذلك!”
لم تكن تنوي أن تصرخ، ورغم أنها لم تكن خجولة من الغرباء، إلا أنها كانت تتجنب الجدال معهم. لكنّها لم تستطع السيطرة على نفسها مع هذا الشاب الفظ.
“أنت تُهين المكان.”

“وأنت تصلّين لكائن خالد يقتل كل فتاة يقبّلها. حقًا تعتقدين أنه يستحق الاحترام؟”
ثم قضم قضمة أخرى من تفاحته.

حاولت تجاهله. حاولت حقًا. لكن بدا كما لو أن سحرًا شريرًا تملّكها. بدلاً من أن تبتعد، تخيلت أن هذا الغريب يستبدل التفاحة بشفتيها، ويقبّلها بفمه المحلّى بالفاكهة حتى تموت بين ذراعيه.

لا. لا يمكن أن يكون…

“أنت تحدقين مجددًا.”
قالها بصوت ناعم.

أدارت إيفانجلين وجهها بسرعة، نحو التمثال. قبل دقائق، كانت شفتا التمثال وحدهما كفيلة بجعل قلبها يخفق، أما الآن فقد بدا مجرد تمثال جامد، بلا حياة مقارنةً بهذا الشاب القاسي.

“شخصيًا، أعتقد أنني أكثر وسامة.”
فجأة، صار يقف بجانبها.

اهتز قلبها بفراشات مذعورة. مشاعر مضطربة ونبضات متسارعة، تحذرها من الهرب، من الفرار. لكنها لم تستطع التوقف عن النظر إليه.

عن قرب، كان جذابًا بشكل لا يمكن إنكاره، وأطول مما ظنّت. ابتسم لها ابتسامة حقيقية، كاشفًا عن غمازتين جعلتاه يبدو للحظة أقرب إلى ملاك منه إلى شيطان. لكنها تخيلت حتى الملائكة عليهم الحذر منه. تخيلته يستخدم تلك الغمازات المخادعة ليُغري ملاكًا بالتخلي عن جناحيه، فقط ليعبث بالريش.

“إنه أنت…” همست.
“أنت أمير القلوب.”

الجرس المعلّق خارج متجر التحف كان يعلم أن هذا الإنسان جالبٌ للمشاكل من الطريقة التي دخل بها عبر الباب. الأجراس تملك سمعًا ممتازًا، لكن هذه الرنّة الصغيرة لم تكن بحاجة إلى مهارة خاصة لالتقاط خشخشة سلسلة ساعة الجيب البراقة عند ورك هذا الشاب، أو صوت احتكاك حذائه الخشن بالأرض بينما يمشي، ولم ينجح سوى في خدش أرضية متجر “مكسيميليان للتحف والطرائف والأشياء الغريبة”.

كان هذا الشاب على وشك أن يُفسد الفتاة التي تعمل داخل المتجر.

لقد حاول الجرس أن يُحذّرها. قبل أن يفتح الفتى الباب بثانيتين كاملتين، قرع الجرس مطرقته. وعلى عكس معظم البشر، كانت هذه الفتاة قد نشأت بين الأشياء الغريبة—وكان الجرس يشتبه منذ وقت طويل بأنها هي الأخرى فضولية بطريقتها، وإن لم يستطع تحديد نوعها تمامًا.

كانت الفتاة تعرف أن العديد من الأشياء ليست كما تبدو، وأن الأجراس تملك حاسة سادسة يفتقر إليها البشر. لكن، وللأسف، هذه الفتاة التي كانت تؤمن بالأمل، والحكايات الخيالية، والحب من النظرة الأولى، كثيرًا ما أساءت تفسير رنّات الجرس.

اليوم، كان الجرس متأكدًا إلى حدّ كبير أنها سمعت دقته التحذيرية. لكن، من نبرة الحماس التي تسللت إلى صوتها وهي تحدث الشاب، بدا وكأن الفتاة قد فسّرت دق الجرس المبكر كعلامة طيبة مصادفة… لا كتحذير.