الفصل الثاني عشر

لم تكن إيفانجلين تعرف إن كان ضوء القمر أو سحر الشمال الغريب هو السبب، لكن الضباب قد تحول إلى بخار متلألئ أضاء الشوارع وجعل رؤوس أشجار الإبر تتلألأ بلمحات من الذهبي والأزرق والجني الأخضر، بينما كانت عربتها تتقدم فوق المطبات والحفر والطرقات غير المستوية التي جعلت أحشاءها تلتف وتضطرب. أو ربما كانت فقط متوترة.

أخبرت نفسها أنه لا داعي للقلق. في وقت سابق، عندما احترقت الندوب على معصمها، خافت أن ترى جاكس الليلة. لكن نظراً لأن العشاء كان حصريًا للغاية، بدت فرصة حضور أحد الأقدار ضئيلة. وإن كان جاكس في هذه المنطقة من الشمال، لم تكن إيفانجلين متأكدة من أنه سيرغب في الحضور. معظم الفتيات سيكنّ هناك من أجل فرصة لقاء الأمير أبولو، وإن كانت الأقدار غيورة كما تقول الحكايات، فلا يمكنها تخيل أن جاكس سيرضى بذلك.

كلا، طمأنت نفسها. جاكس لن يكون هناك. الأمير الوحيد الذي ستراه الليلة هو الأمير أبولو.

تقلّب معدتها مجددًا عندما توقفت العربة أخيرًا. لم تتحرك فرانجيليكا للمغادرة، لكنها قالت بابتسامة مرحة “حظًا سعيدًا! ولا تقتطفي أية ورقة!”

قالت إيفانجلين “لم أكن لأحلم بذلك”، فقط لأنه بدا الرد المناسب، ثم نزلت إلى الليل الملامس للصقيع.

كانت تتوقع أن تصل إلى قلعة مكللة بالثلج أو إلى قصر من حكايات القصص، لكنها وجدت فقط غابة من الأشجار النحيلة تتقاطر بالجليد، وقوسًا مصنوعًا من نفس الجرانيت الأزرق المرقط الذي شكّل بوابة الشمال الكبرى.

لم يكن هذا القوس ضخمًا كما ذاك، لكن المشاعل على جانبيه أضاءت نقوشًا كانت متقنة بنفس القدر، بل وأكثر ترحيبًا. رأت إيفانجلين رموزًا من حكايات الشمال وأغانيه الكثيرة: مفاتيح على شكل نجوم وكتب مكسورة، فرسان يرتدون دروعًا، رأس ذئب متوّج، خيول مجنحة، قطع من قلاع، سهام وثعالب، وكروم متشابكة من زنابق المهرّج.

ذكّرها ذلك قليلًا بتطريز والدتها. كانت دائمًا تخيط صورًا غريبة مثل الثعالب وفتحات المفاتيح على الفساتين. تمنت إيفانجلين لو أن والدتها كانت هنا الآن، وأن ما سيحدث لاحقًا سيجعلها فخورة بها.

“هل ستقفين هنا حتى تتجمدي، أم ستدخلين؟” قال صوت دخاني.

في البداية، ظنت إيفانجلين أن الصوت جاء من القوس. ثم رأته.

كان الشاب واقفًا إلى جوار القوس كما لو كان شجرة في غابة، وكأنه كان هناك دائمًا. لم يرتدِ عباءة أو رداء، فقط درعًا جلديًا متعرجًا وخوذة برونزية غريبة. بدا الجزء العلوي منها كالتاج، سميكًا ومزخرفًا برموز غريبة تحيط بجبهته. تركت الخوذة معظم شعره البني المتموج مكشوفًا لكنها غطّت جزءًا كبيرًا من وجهه بقوس معدني حاد ومسنن امتد من جانبي رأسه إلى جسر أنفه، كاشفًا فقط عينيه ووجنتيه الحادتين.

تراجعت خطوة إلى الوراء بغريزة.

ضحك الجندي، بصوت ناعم على نحو غير متوقع. “أنتِ لستِ في خطر مني، أيتها الأميرة.”

“لستُ أميرة”، صحّحت له.

“لكن ربما ستكونين كذلك.” غمز، ثم اختفى عن نظرها عندما عبرت من خلال القوس وسمعت صوتًا يهمس، نحن سعداء لأنكِ وجدْتنا.

خطوة أخرى، وتحوّل العالم من حولها.

دفء لفّ بشرتها كأشعة شمس بعد الظهيرة. بقيت إيفانجلين في الخارج، لكن الضباب والبخار والبرد قد اختفوا. كل شيء هنا كان مغمورًا بألوان البرونز والأحمر والبرتقالي—ألوان الأوراق عند بداية تحولها.

كانت في فسحة أخرى داخل الغابة، لكن هذه كانت معدّة لحفل، مع موسيقيين يعزفون العيدان والقيثارات، وأشجار تتدلى منها أشرطة احتفالية. وفي قلب كل ذلك، كانت هناك شجرة عنقاء ملكية، وتبيّن لها فجأة معنى تحذير فرانجيليكا الغامض.

كانت هذه المرة الأولى التي ترى فيها إيفانجلين مثل هذه الشجرة، لكنها كانت تعرف عنها من والدتها. تستغرق شجرة العنقاء أكثر من ألف عام لتنضج، حيث تمتد فروعها، وتثخن جذوعها، وتتحول أوراقها إلى ذهب حقيقي. كانت تتلألأ ككنز تنين تحت ضوء الشموع، مغرية الناس بقطفها. ولكن، وفقًا للأسطورة، إذا اقتُطف ورقة ذهبية واحدة قبل أن تتحول جميعها، فإن الشجرة كلها ستشتعل نارًا.

يتجول حول الشجرة أشخاص يبدون مهمين للغاية. إن كان رجال الأرصفة قد بدوا كأن بإمكانهم إسقاط شجرة بضربة فأس، فهؤلاء يبدون كمن يستطيع إنهاء حياة بكلمة مختارة أو ضربة قلم. كان معظم الرجال يرتدون سترات مخملية أنيقة تتناسب مع الديكور الدافئ، بينما ارتدت السيدات مجموعة متنوعة من الفساتين. كانت الغالبية ترتدي موضة الشمال: تنورات خارجية من بروكاد ثقيل، أحزمة مرصعة بالجواهر، وأكمام مشقوقة درامية تتدلى إلى ما بعد أطراف أصابعهن.


لحسن الحظ، لم ترَ إيفانجلين أمير القلوب بينهم. لم يكن هناك أي شاب يحمل تفاحة، أو ملامح قاسية، أو ملابس ممزقة.

تنفّست الصعداء قليلاً، وحوّلت انتباهها للبحث عن الأمير أبولو بين الضيوف الذين كانوا يحتسون من كؤوس بلورية وكأن حضور مناسبات يختار فيها الأمير عروسه أمرٌ شائع مثل وجبة فطور عائلية. ولخيبة أملها، لم يكن أحدٌ منهم يرتدي تاجًا، مما جعلها تفترض أن الأمير لم يصل بعد.

كانت لتسأل أحد الموجودين عنه، لكن، رغم ما بدا من ارتياح على الجميع، لم يشملها أحد في أحاديثه. الدوائر كانت تنغلق، والأفواه تسكت كلما اقتربت منهم.

جعلها ذلك تشعر بخجل غير معتاد، وسعادة داخلية لأن ماريسول لم تأتي. كانت الأخيرة على الأرجح ستظن أن الناس يتجاهلونها بسبب لعنتها.

بعض الأشخاص رمقوا إيفانجلين بنظرات خاطفة، ربما يتساءلون إن كان شعرها بلون الذهب الوردي يعني أنها الفتاة التي تحدثت عنها الصحف الفضائحية. لكن، من الواضح، لم يكن ذلك كافيًا لتدخل إلى أي من الدوائر.

الفتاة الوحيدة الأخرى التي بدا أنها تتعرض للتجاهل المقصود كانت فتاة أخرى في مثل عمر إيفانجلين تقريبًا، ترتدي فستانًا ملفتًا بلون الياقوت المحترق يشبه حراشف التنين. لم يتحدث إليها أحد، لكن من المستحيل ألا يلاحظها أحد. كانت على الأرجح أجمل فتاة في الحفل، وكان فستانها الأكثر جرأة على الإطلاق. لم يكن به أكمام طويلة على الطراز الشمالي، بل لم تكن فيه أكمام على الإطلاق—ليظهر مساحات واسعة من بشرتها البنية الناعمة، وكتفيها الموشومتين برسومات نيران تنين تغطي ذراعيها كقفازات حبر نابضة بالحياة.

التقطت إيفانجلين كأسين بلوريين وتقدّمت نحو الفتاة، التي كانت تتمايل كما لو كانت ترقص مع نفسها.

“هل ترغبين بإحداهما؟” مدت إيفانجلين إحدى الكأسين نحوها.

نظرت الفتاة إلى الكأس، ثم إلى إيفانجلين بعينين ضيقتين.

“لا تقلقي، ليست مسمومة.” شربت إيفانجلين من كلا الكأسين ثم عرضت إحداهما مرة أخرى. “أرأيت؟”

“إلا إذا كانت إحداهما مسمومة، والأخرى فيها الترياق. هذا ما كنت لأفعله أنا.” ارتسمت على وجه الفتاة ابتسامة شريرة على نحو مفاجئ، وأحسّت إيفانجلين لوهلة أن هناك سببًا وراء تجاهل الآخرين لها. ربما لم تكن فتاة بريئة على الإطلاق. أو ربما كانت إيفانجلين لا تزال متأثرة بتحذير ماريسول السابق بشأن المخالب والأنـياب التي ستظهر.

“أنا إيفانجلين، بالمناسبة.”

“أعرف.” تمتمت الفتاة.

توقعت إيفانجلين أن تعرّفها بنفسها حينها، لكن الفتاة الأخرى قالت فقط “عرفتُكِ من شعرك الوردي. ولاحظتُ أيضًا أنك كنتِ تبحثين عن الأمير عندما دخلتِ، لكن نظركِ لم يكن مرتفعًا بما يكفي.” وأشارت بالكأس نحو شجرة العنقاء الملكية.

لم تفهم إيفانجلين كيف أنها لم تره من قبل هناك. الآن بعدما عرفت ما تبحث عنه، أصبح من المستحيل ألا تلاحظ أبولو ووضعه المفاجئ. كان عاليًا فوق الشجرة، على شرفة خشبية، يتكئ بجرأة جانبًا على الدرابزين.

كان صورة لأمير ساحر، يرتدي درجات من الأحمر الخمري والبني الخشبي، وتاجًا ذهبيًا على شكل فروع قرون ملتفة. ومن هذه المسافة، لم تستطع رؤية ملامحه بوضوح، لكنه كان مستلقيًا على الدرابزين ينظر إلى الحفل بأسلوب فيه تركيز شديد، وكأنه يبحث بيأس عن حب حياته. بدا وكأنه يتخذ وضعية رسم لوحة. لا—

كان يتخذ وضعية رسم لوحة بالفعل!

رأت إيفانجلين شرفة أخرى مخفية في الأشجار على الجانب الآخر من الفسحة. كان هناك رسّام يبدو أنه يلتقط وضعية الأمير الدرامية بضربات فرشاة محمومة.

“عليكِ أن تري أبولو عندما يكون الجو أكثر دفئًا”، تمتمت الفتاة بجانبها. “دائمًا ما يتخذ هذه الوضعيات بدون قميصه.”

“هل يفعل هذا كثيرًا؟”

أومأت الأخرى بحماس. “كان الأمر أكثر إثارة عندما كان شقيقه الأصغر، تيبريوس، يسخر منه بإطلاق السهام أو إطلاق قطعان من القطط عليه.”

“أعتقد أنني كنت سأستمتع برؤية ذلك.”

“كان ذلك رائعًا. للأسف، لا يبدو أن تيبريوس هنا.” تنهدت الفتاة الأخرى. “حدث خلاف مؤقت بين الأميرين قبل بضعة أشهر. اختفى تيبريوس لأسابيع، ولا أحد يعرف أين ذهب، ومنذ عودته، وهو يتجنب معظم المناسبات.”

“ما—” شعرت إيفانجلين بومضة من البرد تسري في مؤخرة عنقها، جعلتها تنسى تمامًا ما كانت ستقوله بعد ذلك، ولا تفكر إلا في اسم واحد: جاكس.

لم تكن تعرف كيف عرفت أن تلك الومضة من البرد تعني ذلك، لكنها كانت لتراهن بحياتها أن أمير القلوب قد دخل الحفل الآن.


أضف تعليق