قبل تسع سنوات
نساء آل فيسكونتي يُحبن التنافس على من هو الاكثر حزن في الجنازات.
لا يهم إن كانت الميتة أمّهن أو عمّتهن الثانية عشرة من جهة الأب، فالأمر دائمًا مسابقة لعينة ليرين من يمكنها أن تُظهر الحزن بشكل أقوى.
أنّات، شهقات، شهيق مخنوق. الأصوات التي تُكتم بمنديل مستعار أو تُمسح بمنديل ورقي متفتّت، يمكنني أن أتحملها بالكاد. لكن الصراخ من الجهة الأخرى هو ما يجعلني أرغب في دفن نفسي مع الموتى. العويل، النواح، الصرخات.
أحوّل بصري بعيدًا عن الأسقف فرانسيس، وأحدق في عمّتي الكبرى إزمي بنظرة حارقة.
الغرغرة اللعينة.
“جيسو كريستو (يا الهي )”، يتمتم ابن عمي تور من المقعد خلفي. “ذبحتُ ابن عاهرة الأسبوع الماضي. أصدر نفس الصوت تمامًا.”
تمرّ رجفة على طول الصف الذي أجلس فيه، فألتفت يسارًا إلى أخي راف. إنه يعضّ شفته السفلى ليكتم ضحكته. يلتقي نظري ويُميل حاجبه وكأنّه يقول: “ماذا؟ كان الأمر مضحكًا.”
بجانبه، أخي الآخر غاب يحدّق للأمام مباشرة، وفكه مشدود.
الأسقف فرانسيس يواصل تلاوته صلواته، يحفر في نصوص الطقوس. وبينما تزداد غرغرات عمّتي ازمي علّوًا، تقرر ابنة عمّ اخري جاءت خصيصًا من صقلية ألا تُهزم. تطلق صرخة ثم تشق طريقها خارج مقعدها، يُسمع صوت كعبها وهو يطرق الأرض وهي تمشي في الممر باتجاه المذبح، وتطلق عويل يشبه صوت بالون يُفرغ من الهواء وهي تهوي على ركبتيها أمام التوابيت.
لا أستطيع حتى تذكر اسمها.
تُهمهم اعتذارات بالإيطالية الجافة. نظرات محمومة تتجه نحوي.
ابن عمّ آخر يلحق بها ويسحبها إلى مقعدها، يرفع حافة حجابها الدانتيل ليوبّخها ويواسيها في الوقت نفسه.
لكن الأسقف فرانسيس فقد خيط أفكاره. الآن يتلعثم في كلماته ويبعثر أوراقه، ومن خلفي، أشعر بتغيّر الأجواء.
أنا أفهم. الجنازات الكاثوليكية الرومانية طويلة حد الإعياء. أطول عندما يكون هناك جثتان للدفن، وأحدهما كان رجل دين برتبة شمّاس. المقاعد الخشبية تزداد صلابة مع كل ثانية تمر، والعقول تنجرف من الحزن إلى التفكير في فندق غراند فيسكونتي في ديفلز كوف(خليج الشيطان)،حيث ستُقام مراسم التأبين.
مراسم التأبين:(عندهم عادة بعد أن يُدفن الميت، يجتمع الناس في مكان مثل بيت أو فندق أو صالة، ويتناولون الطعام ويتحدثون عن الشخص المتوفى.)
لا أحد يُقيم حفلة مثل آل فيسكونتي المتوفّين، ناهيك عن اثنين منهم.
ينظر الأسقف نحو المقعد الأمامي، ويلتقي بنظري. أومئ له بإيماءة صغيرة كإذن لإنهاء الأمر. لا أحد في هذه الكنيسة يريد الخروج أسرع مني.
يتنحنح ويعيد تركيزه على رجال الدين.
“أيها الأحبة، تطلب العائلة منكم الانضمام إليهم في ساحة الكنيسة لمراسم الدفن.”
عيون ممتلئة بالشفقة ودموع غير مُذرفة تتجه نحوي.
أنا وإخوتي نقف، ومع نظرة أخيرة طويلة نحو التوابيت، أبتلع الغصّة في حلقي، وأفرد كتفي، وأقود الطريق إلى خلف الكنيسة.
أخترق بحر الهمسات، وعيني على الأبواب الحديدية أمامي.
قاربنا على النهاية. أوشكنا على الانتهاء.
يهتز هاتفي في جيب صدري. آمل أن تكون مساعدتي تُخبرني أن الطائرة قد تزودت بالوقود وجاهزة لإعادتي إلى لندن.
يفتح صبي مذبح الأبواب، ولحظةً، أقف على الدرج وأغمض عينيّ، وأشعر بالرياح الجليدية تصفع وجهي، والصقيع يقرص أنفي.
الطقس هنا على الجرف دائما أقسى من المدينة في الأسفل؛ الرياح أشد، والمطر أغزر.
أمّي، المتفائلة دائمًا، كانت تذكرنا أنه بالرغم من برودة الشتاء، إلا أن الصيف كان أكثر دفئًا أيضًا.
الحياة كلها توازن يا أنجيلو. الخير دائمًا يُلغي الشر.
حين أفتح عيني، راف يقف على أحد جانبي، و غاب على الجانب الآخر. كلاهما يتبع نظري إلى الغيوم المنخفضة، المنتفخة بعاصفة وشيكة.
يزفر راف بصوت خافت “يا له من يوم جميل لندفن والدينا.”
غاب لا يقول شيئًا.
نسلك الممر المتعرج بين شواهد القبور، حتى نقف على بعد أمتار قليلة من حافة الجرف.
هناك حفرتان مستطيلتان محفورة في العشب الطيني.
أقبض يدي.
جنبًا إلى جنب. معًا إلى الأبد.
سيُنقش إصدار معقّم من قصة حبهم على شاهد قبر مشترك. أفكر في كل أولئك العدّائين في الصباح الباكر والسياح التائهين الذين سيتوقفون لقراءة ما كُتب ويصدقون أنه تذكير يومي بأن الحب موجود.
بينما الحقيقة المذنبة مدفونة تحتهم بستة أقدام.
لا يهم كمّ الشعر الرومانسي المنحوت على الرخام، فالحب الحقيقي لا وجود له.
إنه ليس سوى أمل في شكل آخر. مفهوم يتمسك به الفقراء والعاجزون عندما لا يتبقى لهم شيء آخر.
عيني تتجه نحو المدّ المتدفق من البدلات الرسمية والدانتيل وهم يقتربون منّا في المقبرة.
الرجال المرتبطون بالمافيا يعلمون أن الحب لا وجود له.
الأعمام وأبناء العم يقبضون على معاصم زوجاتهم أو عشيقاتهم بدلًا من أيديهن.
يقدّمون عزاءً مبتورًا على أمل أن يصمتن، بينما ينظرون إلى ساعاتهم، ويحسبون متى سيتمكنون من الهرب إلى عاهراتهم، وتخفيف رباطات أعناقهم، ونسيان واجباتهم تجاه كوزا نوسترا.
رجال آل فيسكونتي، خصوصًا، لا يقعون في الحب.
لأن الوقوع يُشير إلى أنه حدث بالصدفة، وكل ما تفعله هذه العائلة مدروس وبارد.
يد مرتجفة تمسك بكتفي.
“ألونسو كان سيُحب هذا المكان الأخير”، يقول عمي ألفريدو، وصوته مخنوق بالعاطفة. “الآن، يمكنه النظر إلى كنيسته من فوق، وإلى بلدته من تحت. لقد بنى كليهما من العدم، تعلم؟”
أنظر إلى كومة التراب التي ستثقل أمي، وأكتفي بإيماءة مقتضبة.
يربت على ظهري ويتراجع خطوة. سأعترف له بشيء واحد، عمي ألفريدو يعرف متى يُفهم التلميح.
تُخفض أمي أولًا، وأجد نفسي أغوص معها؛ المرأة الوحيدة التي سأركع من أجلها. قبضتا يدي تغوصان في الطين.
يد أخرى تُوضع على كتفي، ومن بريق خاتم السترين، أعلم أنه راف.
“أيها الأب السماوي، لأنك دعوت أختنا ماريا فيسكونتي من هذه الحياة إليك، نُسلم جسدها إلى الأرض حيث سيكون مثواها الأخير”، يهدر صوت الأسقف فرانسيس، وسرعان ما تسرقه الرياح.
الحرارة البيضاء تتسلل عبر دمي، وها هو ذلك المرار مجددًا، يحترق في مؤخرة حلقي.
طعمه سر وخطيئة، ومهما غرقت في الويسكي في طريقي للعودة أو بعد ذلك، أعلم أنني لن أتخلص منه أبدًا.
“…تراب إلى تراب، رماد إلى رماد…” يتابع الأسقف.
يحترق البخور، وألسنة الدخان تمتزج بضباب الصباح.
ثم تأتي الورود. حمراء كالدم ومليئة بالأشواك، تهبط بصوت مكتوم على غطاء الماهوغاني.
راف ينحني بجانبي، يرفع قبضته إلى فمه، وينفخ.
بحركة من معصمه، تتناثر زوج من النرد على الغطاء، وتتدحرج حتى تسقط في الفراغ بين التابوت والتربة.
“من أجل سيدتي الحظ”، يهمس، يمرر يده في شعره. “حظًا سعيدًا هناك، ماما.”
ينزل غاب على ركبتيه أيضًا. وبدلًا من أن يرمي الوردة التي بيده، يميل، يضع شفتيه على الخشب، ويهمس بشيء طويل وحميم.
إنها أطول مرة أراه يتحدث فيها منذ سنوات.
تتوقف الزهور والبطاقات عن السقوط، والعيون تتجه إليّ، تنتظر.
ببطء، أخرج شيئًا من جيبي. يصدر الغلاف صوت خشخشة في يدي، وأضعه برفق على التابوت حتى لا ينكسر.
ضحكة خفيفة بجانبي.
“كعكة الحظ”، يقول راف بصوت واهن، وابتسامة حزينة ترتسم على وجهه.
“لماذا لم أفكر في ذلك؟”
كانت تؤمن أمي بالقدر بقدر ما كانت تؤمن بالله. لكنها، وعلى الرغم من رضاها بعدم رؤيتها أو سماعها للرب الكبير في السماء، كانت تسعى دومًا لإثبات وجود القدر. كانت تبحث عنه في كل مكان. في قراءات التاروت بخمسة دولارات عند الغجريات في المهرجان، وفي كرة الحظ الصغيرة المعلقة بمفاتيح منزلها.
ويا للمصيبة… في كعكات الحظ اللعينة. كانت أمي تعيش عليها؛ تفتح واحدة بعد العشاء كل ليلة، وتستخرج شريط الورق الصغير منها برقة وكأنه قطعة أثرية ثمينة. كانت تجد معنى في أي نبوءة غامضة تحتويها، ثم تعمل على تعديل وتشكيل حياتها وفقًا لها.
كانت كعكة الحظ هي التي جاءت بها من نيويورك إلى ديفلز ديب، واشنطن، في المقام الأول.
ابحث عن الأمل حيث الهواء مالح والمنحدرات شديدة الانحدار.
لقد أحبت هذه البلدة اللعينة لأنها اعتقدت أن مصيرها هو أن تبدأ حياتها هنا.
وأتساءل… سواءً كانت منحنية داخل عربة غجرية أو تهز كرة الحظ، هل رأت يومًا أن هذه البلدة ستكون أيضًا سبب وفاتها؟
يُنزل والدي بعد ذلك. هناك حجاب أرجواني يغطي نعشه، ورداؤه الأخضر والذهبي مطوي فوقه. تعود أصوات النحيب من جديد، أعلى مما كانت عليه عند دفن أمي.
أقف على قدميّ وأدير ظهري نحو البحر، شاعرًا بكل نظرات آل فيسكونتي تحترق في ظهري.
أعرف تمامًا ما يفكر فيه الجميع.
وفاة والدي تعني بداية عصر جديد للـ كوزا نوسترا، ويبدأ هذا العصر بي.
الكابو الجديد لـ ديفلز ديب .
وبينما أحدّق نحو قوارب الصيد والسفن التجارية المتمايلة على الأمواج، أشعر بعيون أخرى تراقبني. ألتفت برأسي يمينًا، ونظري يمتد عبر المقبرة إلى الجانب الآخر من الطريق العام الصغير، حيث يتجمع حشد تحت موقف الحافلات.
أُطبِق على فكيّ بقوة
اللعنة على السكان المحليين. بعضهم يجلس على المقعد، وآخرون يتكئون على كابينة الهاتف وأذرعهم متشابكة. جميعهم يشاهدون والديّ يُوضعان في الأرض، وبناءً على نظراتهم وملابسهم الملونة الزاهية، لا يبدو أن أيًّا منهم جاء لتقديم العزاء.
ألتقي بعينيّ رجل مسن. وجهه جلديّ متجعد بفعل الزمن، تمامًا مثل عمّال الميناء الذين قضوا حياتهم في مواجهة عناصر الطبيعة. يرتدي معطفًا أحمر بلون الطوب ووشاحًا أصفر، وبعد لحظات، يسحب شفتيه ليبتسم ابتسامة خبيثة.
كان والدي يقول دومًا إن غضبي يختلف عن غضب إخوتي.
غضبهم يحترق ببطء مثل الشمعة وسهل الإخماد، أما غضبي، فهو مثل الألعاب النارية. أشعل فتيله وسأنفجر بعد ثوانٍ، دون أن أفكر في الأضرار التي قد أسببها.
أنت شرس، يا بُني… وهذه ميزة عظيمة لكابو.
ليس حقًا.
“أنجيلو، أنزل السلاح اللعين”، يهمس عمي ألبرتو في أذني، فجأة بجانبي.
لا أتذكر حتى أنني سحبت السلاح من حزامي، ناهيك عن تصويبه نحو ذلك الوغد عبر الطريق. لكن الحشد بدأ يتفرق كحمام مذعور، يتهامسون بكلمات يبتلعها صوت الأمواج والرياح.
ألتفت للخلف. توقف الاسقف فرانسيس عن الكلام، نساء آل فيسكونتي توقفن عن النحيب، والجميع يحدّق بي، ما بين شفقة، وغضب، وارتباك.
الجميع… ما عدا راف وغاب، أيديهم قريبة من أسلحتهم. يلتقي نظري بعين راف، فيهز رأسه بخفة.
ليست فكرة جيدة، يا أخي.
رغم أنني أقف على بعد أقدام من قبر والديّ، وسلاح في يدي، أطلق ضحكة ساخرة.
لو قفز أنجيلو عن الجرف، هل ستقفزون وراءه؟
كانت أمي تسأل إخوتي ذلك كل مرة أجرّهم إلى فعل أحمق في صغرنا—كحرق الحظيرة القديمة، أو قطع فرامل دراجاتنا لنرى من يصل أسرع من أعلى التل إلى البحيرة.
إجابتهم لم تتغير. نعم.
“إنهم هنا ليتأكدوا أنه مات فعلًا.”
“لا، إنهم هنا ليشاهدوا من سيخلفه.”
يتقدم عمي ألبرتو ويقف أمامي، يحجب رؤيتي لأولئك المحليين المتكدسين في شاحناتهم وسياراتهم، ثم يمسك بفكي. عيناه مزيج من الفخر والحزن.
“لا أستطيع الانتظار لأرى ما ستفعله، يا شرس. ستجعل والدك فخورًا.”
تتشنج عضلات فكي تحت ضغط إبهامه، وفي النهاية، يتركه.
بيد قوية على كتفي، يوجهني عائدًا إلى القبر، ويأخذ الاسقف ذلك كإشارة لمواصلة الطقوس.
ترمى المزيد من الزهور في القبر.
يلقي عمي ألفريدو زجاجة ويسكي إصدار خاص في القبر، وبجانبي، يخلع عمي ألبرتو ساعة رولكس من معصمه ويلقيها داخله.
“ربحتها من العجوز قبل سنوات. لم يكن بارعًا في البوكر.”
ثم يوجه حديثه إلى راف.
“لا أدري من أين ورثت موهبتك، يا فتى.”
حان دوري.
لا أركع على ركبتيّ كما فعلت مع أمي، بل أنحني فوق النعش، والمسبحة السوداء في يدي. السلسلة ملتفة مرتين حول معصمي، والصليب يتمايل في الريح كرقاص الساعة.
لم ينزعها قط.
إلا عندما نزعته عنه.
أتوقف، أطوي الصليب في راحة يدي وأعيده إلى جيب بنطالي.
وحين أرفع نظري، يحدّق ابن عمي دانتي بي من الطرف الآخر للقبر.
مع انتهاء الطقوس، تتساقط التراب على والدتي بصوت مكتوم، كل صفعة أكثر نهائية من سابقتها.
أدير ظهري نحو البحر، تمامًا مع بداية تساقط قطرات المطر.
أعيد المسبحة إلى جيبي وأرفعها إلى شفتيّ.
“اغفر لي، أيها الآب،” أتمتم إلى المعدن البارد بينما تهبط قطرة على خدي، “فقد أذنبت.”
يظهر راف إلى جانبي. ينضم إلينا غاب بعد لحظات.
وراءنا، يسرع الجميع نحو صف السيارات المنتظرة، يحمون أنفسهم من المطر بالمظلات وكتب الترانيم.
وميض برق يشق الأفق.
الله يحاول أن يصعقني.
“إنه مثل المشهد في الأسد الملك،” يهمس راف في ياقة قميصه، يضع يديه في جيوبه. “كل ما تلمسه الشمس هو مملكتك الآن، أو شيء كهذا. كله لك، يا أخي.”
أنظر إلى ما يُفترض أنه مملكتي. الميناء المتهالك إلى اليسار، والبلدة الصغيرة المختبئة في حضن الجرف إلى اليمين. ثم أوجه نظري أبعد، نحو عتمة ديفلز هولو، ثم ديفلز كوف، التي، رغم الضباب والمطر، لا تزال مضيئة كأنها شجرة عيد ميلاد.
“لا أريد.”
تخرج الكلمات من لساني كما توقعت تمامًا.
يصفعني راف على ظهري، بقوة، كأننا لا نقف على حافة جرف في صباح عاصف.
“مكانة كبيرة يصعب ملؤها، يا أخي. لكن إن كان هناك من هو جدير بالمهمة، فهو فيسكونتي الشرس.”
“رحلتي إلى لندن بعد عشرين دقيقة، ولن أعود.”
يخترق الصمت صوت الريح. إنه خانق.
أخيرًا، ألتقي بنظرة أخي الحادة، مشدود الفك تحت نظراته. يرفع حاجبه، يبحث في وجهي عن أي أثر مزاح، لكن، على عكسي، أنا لا أمزح.
غاب، كالعادة، لا يقول شيئًا.
“لن تعود إلى ديفلز ديب؟”
لن أعود إلى هذه الحياة.
لا أشرح. بدلًا من ذلك، أشير برأسي نحو السيارة الوحيدة المتوقفة على جانب الطريق. سائق راف يخفض النافذة وينظر إلينا بنفاد صبر. بجانبها، دراجة غاب النارية متوقفة تحت شجرة.
“اذهبوا إلى مراسم التأبين. سأراكم في وقت لاحق.”
الوريد في جبهة راف ينبض، نظراته ملأى بكل الأسئلة التي لن يطرحها.
أعود إلى البحر، أعيد المسبحة إلى جيبي، وأمسح لحيتي المبللة بمفصل إصبعي. بعد لحظات، يخبرني صوت الحصى المبلل تحت الأقدام أن إخوتي قد غادروا.
وفقط حين يتلاشى هدير دراجة غاب النارية، ألتفت مجددًا إلى قبريّ والديّ.
أحد حفاري القبور يوقف عمله، يستند إلى مجرفته، يحدّق بي بتحفظ.
وبينما أمر بجانبه، أصفع رزمة من النقود على صدره الموحل.
“اخرجها من هنا” أزمجر. “أمي لا تنتمي إلى هنا.”