بيني
الريح قاسية كما هي باردة، تحمل معي آلامي الأكثر قسوة من السواحل، عبر المحيط الهادئ، وتصفعني بها على وجهي.
أبشع الذكريات هي تلك التي تكون الأكثر تأثيرًا. تلك التي لا تراها فقط، بل تشعر بها أيضًا. تحطم زجاجات الويسكي و الرائحة الكريهة للمشروبات الكحولية التي ترتفع من بلاط المطبخ المتسخ. دم أمي، القرمزي والساخن جدًا، يغطي ظهر فخذي. صرخات أبي، القوية جدًا والمقشعرة، وهو ينادي إلهًا أدار له ظهره. صوت خشخشة فتحة المسدس وهو يدور، الحديد ضد صدغي، وغياب الطلقة الثالثة التي لم تأتِ.
عندما غادرت الردهة العلوية، لاحقني الذعر حتى على الرصيف الجانبي وتحولت خطواتي إلى جري. جريت حتى انخفض الرصيف إلى الماء. الآن، بلا مكان آخر أذهب إليه، أنا ممسكة بحاجز السباحة، متسائلًة إذا كانت التيارات خطيرة كما تبدو. تضيق رئتي مع كل نفس لا أستطيع التقاطه، والبقع السوداء في رؤيتي ترقص تحت السحب الرمادية كأنها طيور تحلق منخفضة. يلامس الدفء ظهري، وتستقر يدان على جانبي، محاصرتين لي.
“تنفسي.”
ينخفض نظري من السماء إلى اليدين. أنظر من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار، متسائلًة أيهما ضغط على الزناد.
“أنا-“
قاطعت شفتان ناعمتان على مؤخرة عنقي حديثي. “هذا كلام، وليس تنفسًا.”
أستنشق الهواء البارد مثل الثلج من أنفي، متألمة وهو يحترق ضد جدران رئتي. وعندما أطلقه، يشوه السماء الكئيبة كأنها ضربة مرتعشة لفرشاة الرسم.
“فتاة مطيعة،” يقول رافاييل بلطف. “مرة أخرى.”
الهدوء في صوته مزعج. إنه تناقض صارخ مع حرارة صدره، ومع فعل العنف الذي ارتكبه قبل أقل من ثلاث دقائق. جثة ممدة على الرصيف أعلاه، وكل ما يمكنه فعله هو أن يطلب مني أن أتنفس؟
بينما أختنق في أنفاسي التالية، تنزلق يده عن الحاجز وتستقر مسطحة على بطني. إنها دافئة ومطمئنة بشكل غبي، وعندما يمرر إبهامه صعودًا وهبوطًا، يلامس نفس البوصة من القماش مرارًا وتكرارًا، أتنفس نفس الإيقاع.
“قلت لي إن مسدسك كان مزيفًا،” أقول بصوت خشن ومُر.
“كذبت.”
“ظننتك رجلاً نبيلًا. هل تكذب في هذا أيضًا؟”
يقترب مني، ويأخذ جسدي معه، حتى يضغط ضلعي السفلي ضد الحاجز. دون أن ينطق بكلمة، يجمع كل شعري الذي يرفرف في الرياح، ويجمعه في كعكة عند قاعدة عنقي. يستخدمه كعصا تحكم، وهو يجره برفق حتى يرتكز رأسي على صدره.
“فقط لأنني رجل نبيل، بينيلوبي ، لا يعني دائمًا أنني رجل لطيف.”
تشتد قبضتي على الحاجز، وقلبي يختل إيقاعه. “هل كانت هذه أول مرة…”
ينقبض بطنه ضد عمودي الفقري. “لا.”
“وهل ستفعل…؟”
“أفترض ذلك، نعم.”
لم أستطع أن أكتم شهقة مختنقة من الخروج. “أنت مريض نفسي؛ هل تعرف ذلك؟”
ضحكته الخالية من الفكاهة تلامس نبض رقبتي.
“ما الذي يجعلك تعتقدين ذلك؟”
أغمض عينيّ ، مركزة على صوت نبض قلبه.
“قلبك لا ينبض بسرعة حتى.”
“أنا رجل مُصَنع، بينيلوبي . نحن فقط هكذا مُصَمَّمون.” يده تترك الحاجز وتلتف حولي، جاذبًا إياي إلى دفئه. لا بد أنني متأثرة حقًا لئلا أدفعه بعيدًا. “دائمًا ما يكون الأمر فظيعًا في المرة الأولى التي تسمع فيها دويّ الرصاصة.”
تنهدّي الساخر مرّ ولونه مشبع بعدم التصديق.
“نعم، لكن ليست هذه المرة الأولى. ولا حتى الثانية.”
“اللعب بكرات الطلاء في مراهقتك لا يُحتسب.”
أعلم أنه يحاول تشتيتي عن الرنين في أذني، لكن نبرته المتعالية تشعل شرارة من الانزعاج. ربما لهذا السبب سمحت له بدخول ذكرياتي، أو ربما الذعر الذي يطمس رؤيتي يطمس حكمتي أيضًا.
أحدق في مفاصلي على الحاجز، وقد تحوّل لونهما إلى الأزرق من البرد والأبيض من قوة قبضي. أتنفس بعمق وأترك الرياح تحمل حكايتي.
“كنت هناك عندما قُتل والديّ.” قلتها بصوت مسرع ومبهم. “رجلان يرتديان أقنعة. كان بإمكانهما أن يكونا أي شخص. كان والديّ مدمنين على الكحول والمدمنين على الكحول يميلون إلى إغضاب الناس. تسللوا من خلال النافذة المفتوحة في غرفة المعيشة وأطلقوا النار عليهما حتى الموت. كانت أمي محظوظة. كانت نائمة بالفعل، غارقة في النوم على طاولة المطبخ بعد ليلة طويلة من البكاء على أغاني ويتني هيوستن الحزينة، لذلك أشك أنها شعرت بشيء. لكن والدي؛ لقي نهاية بشعة. استفاق من غيبوبة الكحول التي أصابته طويلًا بما يكفي ليرى فوهة المسدس ويحاول الهروب عبر باب الحديقة.”
أبتلع العقدة السميكة في حلقي وأرفع عينيّ إلى السماء. “سمعت دويّ الرصاصة التي قتلت أمي، لكنني ظننتها جزءًا من حلم. لم أستفق بشكل كامل حتى سمعت صرخات والدي تتصاعد من الدرج.” يخرج ضحك مرير من شفتي. “أتمنى لو أنني بقيت في غرفتي، لأن الرجال ذوي الأقنعة لم يعرفوا حتى أنني موجودة حتى ظهرت في باب المطبخ وبدأت بالصراخ. واحد منهم سحب والدي إلى الحديقة وأطلق عليه النار ككلب مسعور، والآخر دفعني بين الثلاجة وغسالة الملابس وقال لي إنهم تلقوا تعليمات بعدم ترك أي شهود.”
دمعة وحيدة تشق مسارًا ساخنًا على خدي. لا أتحرك لمسحها، لأن رافاييل سيدرك بوجودها. بدلاً من ذلك، أرمش بعينين مغلقتين بقوة وأصلي ألا تسقط دمعة أخرى.
“وضع مسدسه على صدغي وقال لي أن أغلق عينيّ وأبدأ العد من عشرة. عندما كنت أصغر، كان لدي طبيب يستخدم نفس الحيلة ليعطيني اللقاحات، لذا كنت أعرف ما خطته. كان من المحتمل أن يتركني أصل إلى، مثل، أربعة أو خمسة، ثم يضغط الزناد حتى لا أرى ما سيحدث.”
تنزلق أصابعي إلى عقدي، وأمرره عبر السلسلة، تمامًا كما فعلت في تلك الليلة. “لم يتركني أبلغ الثمانية.” أغمض عينيّ بإحكام، أتذكر الصوت الذي تلا الرقم الذي نطقته شفتاي. “المسدس علق. وتعلم ماذا قال لي؟ قال لي أنني لا أعرف كم كنت محظوظة، وأنني كنت-“
“واحدة في المليون,” همس رافاييل في شعري، وجسده يصبح متصلبًا خلفي. “لهذا لا تحبين البرق، لأن التعرض له هو احتمال آخر واحد في المليون.”
أمرر لساني على أسناني، وأهز رأسي قليلًا. “أعلم أن هذا غير منطقي وأنه أناني، لكن إذا كان من الممكن أن يحدث مرة، يمكن أن يحدث مرة أخرى.”
رغم الصمت الذي يختلط مع الرياح، تخرج أنفاسي ثابتة للمرة الأولى منذ أن سمعت الطلقة. يبدو أن التحدث عن الأمور حقًا يساعد. حتى لو كنت تتحدث مع قاتل مرتدي زي المخمل. شعور صدره الدافئ وهو يتسع ويضيق ضد ظهري يغويني بشعور زائف بالأمان: لست أتوقعه عندما تنزلق يده من بطني، فوق صدري، وتلمس عقدي. “لهذا تعتقدين أنك محظوظة.”
يخفق قلبي ضربتين تحت لمسته. “أحد الأسباب,” همست ردًا.
“أخبريني عن البقية.”
أفتح فمي لكنني أضغطه بسرعة. بينما يلتقطني شبح الأيادي التي ترفع فستاني، قررت البقاء صامتة. بدلاً من ذلك، حاولت التملص من قبضته واختيار رد يضع العالم في مكانه الصحيح مرة أخرى.
“حسنًا، هزمتك في كل لعبة، أولاً.”
تنزلق يده عن عقدي أولًا، ثم يده الأخرى تفتح شعري برفق. وأنا أشعر به وهو يتساقط على ظهري، أبتلع وأتجرأ على أن ألتفت وأرفع عينيّ إليه. بحثت عيناه في عينيّ، تتأرجحان مع تسلية جافة. شعور بالراحة يلون بشرتي؛ لو أنني التفت ورأيت الشفقة في عينيه، ربما كان عليّ أن أقتلع عينيّ.
حدق بي لفترة طويلة جدًا، قبل أن يلتفت صوت زمجرة محرك لينقل انتباهنا إلى المحيط الهادئ. تحت السحب الثقيلة، يقطع قارب سريع أسود لامع المياه بسرعة غير معقولة. هناك شخص واحد فقط خلف عجلة القيادة، بخطوط عريضة، عضلات كبيرة، ونظارات شمسية عاكسة. قبل أن تلمس مقدمة القارب منصة السباحة، يوجهه بحدة، جاذبًا المركب بجانب اليخت في اللحظة الأخيرة.
عبس رافاييل. “انتبه لدهان اليخت، يا أحمق.”
يخلع غابرييل فيسكونتي نظارته الشمسية، مكشفًا عن نظرة قاسية وندبة غاضبة لدرجة تجعل حلقي يضيق.
يربط الحبل بالعامود على المنصة في صمت ثقيل.
ينزل نظري إلى قميصه الأسود الضيق – في ديسمبر – وكل الحبر الذي يتسرب من تحته.
يقفز إلى المنصة ويتوقف بجانب شقيقه. يلتفت ليحدق بي، ثم يرمق عقدي بنظرة شديدة الغضب لدرجة أن أصابعي ترتجف وتريد تمزيقه وإعطائه إياه.
“دهان اليخت هو أقل مخاوفك، يا أخي.”
يتمايل اليخت أكثر من المعتاد وهو يصعد الدرج خطوتين في كل مرة ويختفي عن الأنظار. تمر قشعريرة على عمودي الفقري. إذا كان أنجيلو هو الخطوط العريضة الخشنة، ورافاييل هو اللوحة النهائية النظيفة، فإن غابرييل هو الشيطان الذي يعيش في كوابيس الفنان.
تنهد رافاييل ثم أعاد انتباهه إليّ. تخف نظراته لتصبح أكثر دفئًا وهو يبحث في ملامحي. تخلصت من القشعريرة لسبب مختلف عندما كف يده تتسع على فكي، وأصابعه تلامس منحنى عظم وجنتي.
“لا تبكي.”
يمر تنفسي التالي بخفة على ظهر يده، أقل عمقًا من السابق. هذه هي نفس اليد التي ضغطت على الزناد وأنهت حياة. فلماذا يبدو هذا اللمس مريحًا جدًا على جلدي؟
يتصلب فكي ضد راحة يده في محاولة لاستعادة بعض توازني. “لماذا تهتم إذا بكيت؟”
يتبع إبهامه وهو ينزلق أكثر للأسفل، عبر شفتي السفلية وعلى طول ذقني. يمسك بي هناك للحظة، وحزن يغطّي ملامحه.
“لأنني رأيتكِ تضحكين الليلة الماضية.”